25 يوليو 2010

حتى لا نحرقها

 
يُحكى أن ولداً صغيراً كان يرعى الغنم بالقرب من مدخل إحدى القرى، وكان كلما شعر بالملل يقوم بتسلية نفسه بأن يصرخ "الذئب قادم!"، وعندما كان أهل القرية يسمعونه ثم يكتشفون زيف إدعائه، كانوا يغضبون منه بشده ثم يعودون إلى أعمالهم. شاءت الظروف أن فى إحدى المرات جاء ذئب فعلاً، فصرخ هذا الولد بكل ما أوتى من قوه، ولكن هذه المرة لم يصدقه أحداً من أهل القرية، فكانت النتيجة أن أكل الذئب قطيع الخراف والولد الصغير، وفى بعض النسخ من قصة الأطفال القديمة تلك يقوم الذئب بالفتك بأهل القرية أيضاً.


قفزت هذه القصة إلى ذهنى فجأة مع بوادر إشتعال فتنة جديدة فى محافظة المنيا هذه المرة، فجأة ظهرت بعض الأخبار فى الجرائد تقول أن هناك زوجة كاهن "إختفت"...والفقرة القادمة هى من الخبر المنشور فى جريدة اليوم السابع دون أى تدخل:
كما شارك فى المظاهرة لأول مرة 50 كاهنا من داخل الكنيسة، وهتف المتظاهرون وقالوا: "يا مسيحى عللى صوتك ما تخليش الدنيا تفوتك"، و"اصرخ اصرخ على الصوت اللى بيصرخ"، و"خطفوا مرات أبونا.. بكرة هيخطفونا"، و"أمن الدولة ساكت ليه أنت معاهم ولا إيه"، كما رفع بعضهم لافتات تطالب الرئيس مبارك بالتدخل مكتوبا عليها: "أقباط دير مواس يناشدون الرئيس مبارك بسرعة عودة زوجة الكاهن المختطفة"
إنتهى الإقتباس، طبعاً أنت كمصرى تجد السطور السابقة منطقية ومترابطة إلى حد كبير...لكن أرجوك تخيل معى لو أن شخصاً غريباً عن مصرنا قام بقراءة هذا المقال، ألن يشعر بوجود حلقة بل حلقات مفقودة بين السطور السابقة؟ ألن يتسائل ما العلاقة بين هذا الكلام وبعضه؟ ألن يعلق متعجباً "هل تقومون بالخروج فى مظاهرات عندما تختفى إمرأة عندكم؟واااااااو!"؟ وربما يتساءل فى منتهى البراءة "وما دخل أمن الدولة بإختفاء أى إمرأة أصلاً أليست مهمة البحث عن المفقودين من إختصاص الشرطة؟ ثم من الذى قال أنها خطفت أصلاً ألم تقولوا أنها إختفت فقط؟ وتطلبون من رئيس الدولة التدخل شخصياً للبحث عنها؟! لابد أنكم دولة محترمة تحافظ على مواطنيها بشدة!"
ألن تكون هذه هى تساؤلات الخواجة البريئة، التساؤلات المنطقية التى لا يحكمها أى خلفيات طائفية مترسخة؟ ولكن يبدو أننا اعتدنا تلك القصص المفزعة حتى أصبح من الطبيعى أن تكون تلك الفقرة المقتبسة نتيجة طبيعية للسطر الذى سبقها!
 بمجرد إختفاء تلك السيدة بدون سبب تم إخراج نظرية المؤامرة التى أدمنها المصريون جميعاً إلى النور، وقامت المظاهرات وبدأت الإعتصامات داخل الكاتدرائية، وبدأ التنديد ومطالبة رئيس الجمهورية للتدخل لحلّ الأزمة، وأشتعل كل شىء، فقط لتظهر السيدة فجأة مرة أخرى مع تصريحات بها الكثير من النقاط الغامضة، ولكن ذكر فيها أن السبب الرئيسى كان الخلافات العائلية، والتى قررت الزوجة على اثرها ترك المنزل. فجأة يهدأ كل شىء وتنتهى الإعتصامات وتنزل اللافتات ويعود كل شخص إلى منزله، ولا أستطيع حقاً تخيّل ما كان يمكن أن يحدث لو لم تظهر تلك السيدة فى هذا الوقت القصير!
ما أن بدأت المشكلة حتى عادت إلى الأذهان مشكلة وفاء قسطنطين، التى مازال يصر أحد الطرفان بإستماتة على أنها أختطفت وأجبرت على تغيير ديانتها، وهؤلاء مقتنعون تماماً أن هناك تنظيمات إسلامية فى مصر لا هم لها ولا طائل سوى خطف فتيات الأقباط وإجبارهم على تغيير ديانتهم، بينما يصر الطرف الآخر أنها قامت بفعل ذلك بمحض إرادتها تماماً ولكن بسبب ضغط الكنيسة على الدولة قامت الدولة بتسليمها للكنيسة، وهذا الفريق قرر تصديق أن هؤلاء الذين يتركون المسيحية يتم حبسهم وتعذيبهم فى الأديرة(!)، والتى هى بالطبع ليست سوى مخازن سلاح متخفّية(!!)، وأن وفاء قسطنطين ماتت من أثر تعذيبها فى الدير(!!!).
هل يمتلك أى من الفريقين ما يؤيد كلامه؟ لا. هل يبدو كلام أحدهم منطقياً أصلاً؟ لا. هل ظهرت أى تصريحات فى هذا الموضوع كمحاولة للقضاء على الشكوك؟ هذا الموضوع بالذات كان شديد الريبة وبالتأكيد هناك شىء خطأ به، ولكن رغم ذلك لم تصدر أى تصريحات لتهدئة أى من الأطراف المشاركة! أى أن المشكلة أثيرت وتم تضخيمها إلى أقصى الحدود ولم تتم معالجتها نهائياً، فتحوّلت إلى جرح قديم يؤلم جميع الأطراف بمجرد أن تنكأه أى قصة أو حدث جديد من هذا النوع، جرح سببه الرئيسى هو عدم الفهم!
هل مازلت تتسائل عن علاقة قصة الأطفال التى ذكرتها فى بداية الحديث بهذا الموضوع؟ القصة هى مفتاح المشكلة، فالسبب ببساطة أن عدم إهتمام الحكومة والأمن بحل المشاكل السابقة -الحقيقية منها- قام بخلق خلفية راسخة لدى الأقباط أصبحت تقوم بإستمرار بتحويل كل حادثة عادية إلى حادثة طائفية حتى لو لم تكن كذلك، فلو كانت المشاكل الطائفية الحقيقة السابقة لاقت ولو القليل من الإهتمام وتم حلّها بمنتهى العدل والحيادية، لما أصبحنا فى مصر كمن يسير على طريق ملىء بالألغام كلما اختفت فتاة شاءت الأقدار أن تكون مسيحية، حيث يتجه التفكير مباشرة إلى الأسباب الطائفية قبل الأسباب المنطقية، فمن كثرة إنكار وإهمال المسئولين للحوادث الطائفية الحقيقية وعدم التدخل لحلّها حلاً جذرياً أصبحت كل المشاكل التالية حتى الغير حقيقى منها ذئباً قادم ليلتهمنا، ومهما حاولت الحكومة إثبات أن هذه المرة المشكلة لم تكن طائفية حقاً فلن يصدقها أحد أبداً، كيف يصدقها أحد وقد خدعتنا كل هذه المرات السابقة؟ لابد أنها مشكلة طائفية أخرى يقومون بإنكارها إذن! عندها قد يأتى الدمار علينا فعلاً بسبب مشكلة وهمية قد لا يكون لها أى أصل من الصحة.
وحتى لو نظرنا على مستوى أصغر إلى تفكير الفرد الواحد نفسه، سنجد نمط التفكير ذاته بداخل رأس كل قبطى فى مصر، ماذا تتوقع من شخص عاش طوال حياته يقابل العديد من المواقف الغريبة بسبب ديانته؟ ماذا عن مدرس اللغة الإنجليزية الذى صرخ فيك عندما كنت طفلاً تأكل الشطائر فى الفسحة كعادتك "طب إتداروا وانتوا بتاكلوا الله يحرقكوا" فقط لتفهم لاحقاً أنه أصبح واجباً عليك أن تصوم شهر رمضان انت أيضاً؟ ماذا عن سائق الميكروباص الذى عندما طلبت منه أن ينزلك أمام الكنيسة قال لك بإستنكار "لية كده بقىىىىىى"؟، العديد من المواقف التى قد يراها من لم يعشها شديدة التفاهة، لكن تراكمها وعدم توقفها هو الذى يؤدى إلى تكوين تلك الخلفية الطائفية بداخل الشخص، والذى يؤدى بدوره إلى الكوارث التى تقرأ عنها فى الجرائد لاحقاً، حيث تكون النتيجة الحتمية أن أصغر موقف سيقابله الشخص فى وقت لاحق -حتى لو لم يكن للموقف بعد طائفى أصلاً- سيعتقد أن له أسباباً طائفية، فتجد أنه من الطبيعى أن تعتقد سيدة مسيحية أن أحد الباعة عاملها بجفاء وقلة ذوق فقط لأنه رأى الصليب المتدلى من عنقها وليس لأنه بائع سمج أصلاً، وأصبح الشاب المتقدم للوظيفة يعتقد أنه تم رفضه لأن إسمه "مينا" فقط، وليس لأنه قد يكون غير كفء للوظيفة المتقدم لها. قم بتطبيق هذه المبادىء البسيطة على مقياس أوسع لتدرك حجم الكارثة وتفهم المحرك الرئيسى لتلك المظاهرات، فالجميع يرى أنه لابد أن الفتاة المختفية خطفت لأنها مسيحية وليس لأن هذا قد يكون حادث خطف أو سرقة أو إغتصاب عادى، فالطائفية بكافة صورها تتسبب فى أن يصبح التفكير والتفسير المنطقى هو آخر الأشياء التى قد يفكر بها الشخص، فهو لا يرى الحياة سوى من خلال منظار واحد يعميه عن الكثير من الحقائق.
إن ما نعانى منه هو نتاج عدة أزمات متراكبة وليست أزمة طائفية فقط، فلقد تدخلت أزمة إنعدام الثقة فى الآخر المختلف مع مشكلة الترسبات الطائفية القديمة مع أزمة إنعدام الثقة فى أفعال وتصريحات الحكومة، لخلق وحش أسطورى قادر على إلتهامنا جميعاً فى لحظات معدودة بمجرد أن يقوم أى شخص بحلّ وثاقه، وهذا الأمر أصبح يتم الآن بمنتهى السهولة، فقط أطلق شائعة صغيرة وشاهد السحر يحدث أمام عينيك! لكن رغم إعتراضى على أن الكثير من الأقباط يبالغون كثيراً فى إيعاز كل شىء إلى الطائفية والإضهاد الدينى، ولكنهم لم يخلقوا هذه الطائفية بمفردهم، فهى لم تظهر سوى بوجود مسببات لها لا أعتقد أن أحداً مازال فى حاجة لذكرها.
بصراحة شديدة ليست مشكلتى الآن كون السيدة كاميليا خطفت أم لا، فهذه -صدق أو لا تصدق- لم تعد المشكلة الرئيسية، ولكن المشكلة الآن أصبحت فى إنعدام الثقة التام بين الجميع سواء بين أطراف الشعب على إختلاف ديانتهم، أو بين الشعب والحكومة كتصريحات، فحتى لو كانت لم تخطف فعلاً من الذى سيصدق ذلك الآن وكيف ستقنعه بذلك؟ ربما لو كانت المشاكل الطائفية الحقيقة السابقة حلّت بشىء من الشفافية بعيداً عن سياسة التجاهل والتصريحات الغير منطقية، لما ظهرت لدينا مشكلة إنعدام الثقة والشعور بالأمان التى أدت بدورها إلى عدم تصديق أى شىء، حتى لو كانت السيدة كاميليا لم تخطف فعلاً وقامت بنفسها بالمرور على منزل كل قبطى فى مصر لتخبره أنها لم تخطف!
رغم أننى لست ممن يهتفون ويشجعون نظرية المؤامرة فى كل كبيرة وصغيرة، ورغم إيمانى الشديد أننا نحن -كمصريين- السبب الرئيسى فى كل ما يحدث، لكن أحياناً يحضرنى ذلك الشعور أننا كالعرائس فى يد أحدهم يقوم بمنتهى السهولة بتحريكنا وجعلنا نتقاتل ونتناحر، ثم يقوم بوضعنا على الرف قليلاً ليعود لللعب بنا مرة أخرى لاحقاً! ولكن حتى لو كان أحدهم يتربص بنا بالفعل ويقوم بإشعال تلك الازمة متعمداً كل فترة، فهو ما كان ليستطيع فعل أى شىء لولا أننا -كمصريين أيضاً- فتحنا له الباب على مصراعيه ليفعل بنا كما يشاء، فلو كنا نمتلك القليل من العقل بداخل رؤوسنا لما استطاع أى شخص أن يقوم بإشعال النار فينا كل فترة بهذا الشكل المستفز.
اندرو جورج
25-7-2010
ملحقات:
*
فرج فودة والفتنة الطائفية الحلقة الثامنة
"هنا الشائعة مدروسة...لية؟ لأنها تركز على جانب العرض، وجانب العرض الإنسان العربى فينا لما يشعر إن عرضه قابل للإنتهاك يثور دون تفكير"
~~ شهيد الكلمة د. فرج فودة


*
إبراهيم عيسى - لن تكون الأخيرة
"لأن مصر صارت بلدًا متعصبًا وبلد كراهية بين أصحاب العقيدتين رغم النفاق المزري الذي نراه من رجال الدين من الناحيتين، ورغم كذب الحكومة الكذوب في نفي وجود أزمة واحتقان طائفي في البلد. مصر يسودها التطرف والتعصب والجهل سواء عند المسلمين أو المسيحيين بسبب الكبت والقهر والفساد وسيادة الدعاة السلفيين والوهابيين علي رؤوس المسلمين وسيطرة رجال الكنيسة والكهنوت علي مخ وحياة الأقباط.
أقول لكم صادقًا وصائحًا: الضربة في قلب مصر ستأتي من التعصب الطائفي.. فاحذروا!"


* إسلام «وفاء قسطنطين» وتنصير «محمد حجازى» قضايا إشعال الفتنه فى كاتدرائية العباسية
"الصوت العالى والضجة الكبيرة دائما ما تخلف وراءها إشاعات وروايات لا تخرج عن الخيال، بل مظاهرات تدين المسلمين بعد أن أجبروا المهندسة وفاء على اعتناق الإسلام وأخرى تدين المسيحيين بعد تنصر محمد حجازى.. الجدل وصل لأعلى مراحله ليثار تراشقا بين مفكرين إسلاميين وقساوسة."