16 ديسمبر 2011

فزّورة الشجرة اللى عايزه قطعها


معظم النار من مستصغر الشرر: عن المشكلة التى لا يراها أحداً كمشكلة -
هو: يسير فى الشارع وعيناه تبدوان مثبتتان فى منتصف رأسه، بينما هما فى الحقيقة تتقافزان فى جميع الإتجاهات ناظرين إلى الفتيات يميناً ويساراً. تجول بفكره للحظة خاطرة تجعله يتعجب من نفسه، فهو يذكر جيداً كيف إنه فى أوج فترة مراهقته نفسها منذ عشر سنوات لم يكن ينظر للفتيات بتلك الكثافة البشعة رغم أن وقتها كان مقدار التحرر أكثر بكثير من الآن، فماذا جد الآن حتى أصبح يسير متفحصاً كل شبر من كل فتاة وسيدة تمر أمامه رغم أنهم تغطوا أكثر بكثير عما كان الحال عليه منذ عشر سنوات ؟

ينفض عن رأسه تلك الفكرة لأنها بدت له متناقضة، وتفسيرها الوحيد هو أن هناك خللاً ما حدث له، وهو لا يرى فى نفسه مشكلة، فالنفس البشرية تأبى دائماً الإعتراف أن بها خطأ ما، لعبة نفسية معتادة تراها كلما حاولت وضع شخص ما فى مواجهة مباشرة مع شياطينه: صدمة وتجهم، ثم محاولات مستميتة للدفاع عن نفسه وإلصاق الخطأ بكل شىء آخر بما فيه أنت شخصياً، يليها إنفجار مدمر لا يستطيع أحد أبداً تقدير قوته أو إتجاهه.

"لقد إزدادت الفتيات توحشاً وعرياً، إلى أين سيأخذونا أكثر من ذلك؟"، تجول تلك الفكرة فى داخل رأسه فى نفس الوقت الذى يحاول فيه بإستماته إختراق ملابس سيدة أخرى ببصره، ليكتشف لاحقاً عندما إلتفتت لتتفحص واجهة إحدى المحلات أنها تعدت الخمسين عاماً، يشعر بالغباء الشديد ثم يصعد إلى منزله.

يقوم بتغيير ملابسه، ويجلس فى صمت إلى جهاز الكمبيوتر الخاص به ليتفحص الفيسبوك. يرى أحد الأصدقاء وقد شارك بإحدى الصور تظهر فيها بعض الشابات المصريات يرتدين البناطيل الجينز العادية، ومكتوباً تحتها مناجاة كوميدية ساخرة ترجو الفتيات أن يقوموا بتوسيع ملابسهم قليلاً، وأن لا يرتدوا الكعب العالى الذى يثير صوته الإنتباه لهم، وأن لا يضحكوا بصوت مسموع، إلخ...

تثير الصورة والتعليق فى نفسه تشفّى وحشى، وراحة داخلية شديدة فى نفس الوقت، كالراحة التى تتركها فينا جرعة ماء بارده فى نهارأغسطس المشتعل. يقوم بمشاركة الصورة عنده هو الآخر مع إضافة تعليقه الكوميدى "أيوة بقى إرحمونا يا بنات ده إحنا زهقنا"، يدخل بعضاً من أصدقاؤه الشباب ليتركوا تعليقات كوميدية مماثلة تثنى على الصورة، وينضم لهم أحد من يدعونهم بالـ"متدينين" ليلعن "فتيات اليومين دول" جميعاً ويشاركنا بأحلامه المتمثلة فى أن تقوم الحكومة القادمة بمنع الفتيات من إرتداء مثل تلك الملابس.

يضحكون بشدة، ثم ينسى الجميع كل شىء، وكأن شيئاً لم يكن...

الناظر إلى الحدث نظره سطحية يرى أن الأمر نمطى، بينما فى الحقيقة تلك الأحداث المتتالية المتكررة لها تأثير متضخم ككرة الثلج: ففى تلك القصة الصغيرة قام جميع المشاركين بها ببساطة وبشكل لا إرادى بترسيخ الفكرة ذاتها مرة أخرى بشكل أقوى بكثير فى عقلهم الباطن: يجب أن نغطى الفتيات أكثر حتى لا نُثار نحن بهذا الشكل، وهنا وجب علينا أن نتوقف قليلاً ونسأل هل ستحل المشكلة بالتغطية حقاً؟


- العَرَض...والمرض -

التمييز بين الأعراض والمرض نفسه هو المفتاح لتحديد أصل المشكلة، ومن ثم حلها، هل الكحة تسببت فى الحساسية أم الحساسية هى التى تسببت فى الكحة؟ إذا إستطعت تحديد أيهما السبب وأيهما النتيجة، تعالج السبب فتختفى النتيجة، والسبب الرئيسى فى كارثتنا هنا هى أن معظم الناس لا يستطيعون التمييز بين السبب والنتيجة.

لذا وجب أن نفصل بين المشكلتين:
1) مشكلة ملابس الفتيات الغير ملائمة (من وجهة نظر الناس بالطبع لأن الموضوع نسبى تماماً).
2) مشكلة الشاب المتحرش، حتى لو كان ذلك بمجرد النظر وبدون أن تلاحظ الفتاة ما حدث.

يدّعى هواة المنع والتغطية أن الثانية نتيجة للأولى، أى أن المرض هو "ملابس الفتيات الغير محتشمة"، وبالتالى ظهر العَرَض متمثلاً فى زيادة التحرشات فى الشوارع، والحقيقة أن المشكلتان منفصلتين تماماً، فإعتبارك أن التحرش بفتاة هو نتيجة لإختيارها لملابسها = تصريح بإنتهاك كل من لا ترتدى ملابس على هوى الشاب المتحرش، نعم هو تصريح، وأقول أنها مسألة أهواء لأن الملابس شىء نسبى تماماً، فحتى التفسيرات الدينية بهذا الصدد تتعدد بين أبناء الدين الواحد.

لا داعى أن أعيد نفس الكلام المستهلك عن مصر الستينيات التى كان أهالينا أنفسهم يرتدون فيها المينى جيب والباديهات ولم يكن يتعرض لهم أحد، ولا داعى أيضاً أن أعيد نفس الكلام المستهلك عن إرتفاع نسب الشذوذ فى الدول التى تجرم وتمنع كل شىء، لأن هذا الكلام قيل كثيراً من قبل وأصبح تكراره مملاً. أنت ترى بالطبع أن من واجبك إسداء النصح والدعوة لأخواتك بغض النظر عن كل شىء، جميل، قم بإسداء النصح وأنشر دعواك كيفما شئت مادامت من تكلمها سمحت لك أن تتكلم معها وأعطتك فرصة أن تسمعك، لأن تلك هى الحالة الوحيدة التى من حقك أن تنطق فيها. وهكذا تكون أديت دورك الدعوى مع الطرف الأنثوى من المشكلة، هل تشعر أنك أديت دورك الآن؟ ممتاز. لكن هل حللت المشكلة حقاً بعد سنوات من زيادة التغطية؟ لا، بل أنه يبدو أحياناً للمتأمل للأمر من بعيد أن نسبة التحرشات تتناسب طردياً مع مقدار التغطية !

هنا يظهر صديقى الخبيث متسائلاً، مدفوعاً بتفكيره المتطرف المعتاد، قائلاً: "أنت تدعو لتعرّى البنات إذن مع إصلاح أخلاق الشباب؟" لأجيبه أن الأمر الآن تحوّل إلى مسألة أولويات بعد أن أثبتنا بالتجربة خطأ دعواكم الفاشلة المتمثلة فى "إخفاء الكارثة بالتغطية"، أيهما إذن يجب أن نعطيه الأولوية الآن: تغطيتهـ"نّ" أكثر وأكثر؟ أم إصلاح أخلاقهـ"م"؟ وأرجوك لا تحدثنى عن ضرورة أخذ الإتجاهين معاً الآن بالذات، فلم يتبقى لك شىء لتغطيه سوى بأن تمنع النساء من الخروج من منازلهم أصلاً !

الآن وقد ثبت ضعف منطق من يطالبون بالتغطية تجدهم يلعبون الكارت الأخير بأن "التغظية لدرء المفاسد بغرض حماية الفتيات من ضعاف النفوس من الرجال". لقد ثبت لدينا بعد أعوام وأعوام من التجربة بالدليل القاطع كذب وتضليل كل هذه الدعاوى، وأدعوكم لتأمل الصورة التالية لشابين يتفحصان ما أستطاعوا رؤيته من إحدى مرأتان منقبتان تسيران فى الشارع، وهو "كعب قدمها" ! هل قامت التغطية بحمايتها حقاً؟ بإمكانى إحضار مئات الصور من تحرشات الأعياد التى تكون باليد وليست بالنظر خلال السنوات الماضية والموجودة فى كل الجرائد، ولسيدات كهؤلاء، فهذه ليست حالة فردية بل هى إتجاة عام، كلما غطيت شيئاً سيبحث عن أى شىء آخر فيها يمكنه رؤيته، مادمت لم تصلح منه هو نفسه !

تأمل الصورة جيداً...
- أوباااااااااااا شفت ياض؟ البت اللى ماشية هناك دى كعبها باين، أيووووووووة، كعب جامد قوى، انا تعبت يا عم من المنظر !
- بص السافلة...ماهى لو كانت بنت محترمة مكانتش كشفت كعبها بالمنظر ده قدام اللى رايح واللى جاى، أستغفر الله العظيم، ما تتغطوا بقى الله يحرقكوا !

بمناسبة هذه الصورة، صدمت صدمة عمرى عندما كنت أناقش أحد الزملاء من أتباع التيار السلفى على الفيسبوك وعرضت عليه تلك الصورة، فقال لى بالنص:

"على فكرة الصورة اللي انت حاططها فوق دي بتأكد الكلام ان البنت دي لو مكنتش مبينة كعبها مكانوش بصوا عليها بدليل انهم سابوا كل حاجه و بصوا على كعبهاو الكلام اللي على الصورة بيثبت أكتر و أكتر لأن في أوروبا فعلا بتبقى لابسة ربع ده و فعلا محدش بيتحرش بيها ...... بس ممكن تقوللي بقه نسبة الزنا هناك كام و هو ده اللي مسببلهم اكتفاء و عدم تحرش بيهم مش انهم مؤدبين و بيغضوا بصرهم ...... و هو ده اللي فيء ناس عاوزانا نوصله و هو اننا نوصل لنسبة الزنا دي علشان منتحرش بيهم في الشارع ...... و نعم التفكير"

أى بإختصار: فى أوروبا لا يتحرشون بالنساء فى الشوارع لأنهم ينامون معهنّ، بينما نحن هنا من كثرة طهارتنا نتحرش بهم فى الشوارع !!!

تأمل جيداً فى كل ما يحدث حولك وتعلّم كيفية قراءة الأحداث وتحليلها، وقتها ستعرف أيهما العَرَض، وأين يكمن المرض...


- "أطالب سيادة الرئيس -أطال الله عمره- بمنع المواقع الإباحية" -
تذكرت أحد المحامين الأغنياء عن التعريف، والذى لا هم له سوى أن يرفع قضية على المطربة الفلانية لأنها ظهرت مرتدية فستان سوارية يُظهِر جزءاً من صدرها على الشاشة، كنت دائماً ما أتمنى الصراخ فى وجهه قائلاً "وإنت كنت بتتفرج عليها ليه أساساً ؟!!"

جلس الشاب إلى جهاز الكمبيوتر الخاص به، وحاول الوصول إلى أحد المواقع الإباحية الشهيرة، ليجد عبارة غريبة تظهر له بأن هذا الموقع ممنوع الوصول إليه، تمتم لنفسه "اللعنة !" وحاول الوصول يميناً ويساراً فلم يتمكن، ظل قرابة الثلاث ساعات يحاول فتح أى موقع إباحى لكنه لم يستطع، فلقد قام جاره صاحب وصلة الإنترنت بمنعها تماماً، نموذج مصغّر للدعوات المطالبة "للحكومة" بفرض الرقابة على الإنترنت بهدف منع المواقع الإباحية عن الشباب.

والآن ما رأيك فى هذا الشاب؟ ما رأيك فى الحجب الذى فرضه عليه صاحب الوصاية؟ هل حافظنا على أخلاقه هكذا؟ أى أخلاق تلك التى نتحدث عنها هنا؟

هل تكمن المشكلة فى "نجاح" الشاب فى الوصول إلى تلك الأشياء؟ أم أن المشكلة متمثلة فى أنه "حاول" الوصول إليها من الأصل؟ إذا كانت مشكلتك كلها متمثلة فى أن تمنعه من "النجاح فى الوصول"، فأنت منافق، لأنك تعلم جيداً أنك مهما فعلت فهناك مئات الطرق ليحصل بها على مراده، وتصعيبك عليه الأمور لا يمثل سوى حافز لمشاعر التحدى الموجودة عند كل بنى البشر وحب خرق القوانين الموجود بشكل متفاوت من شخص إلى آخر، ولنأخذ من الحشيش والخمر مثالاً، الخمور فى مصر ليست ممنوعة وتباع علناً فى المحال وبأسعار رخيصة، ولكن لا أحد يهتم بها نهائياً ومصر تقريباً أقل دولة فى العالم من ناحية إستهلاك الخمور، أما الحشيش، فلا داعى للحديث عنه فكلنا نعلم جيداً نسب إستخدامه. (ملحوظة: لو ظهر نفس صديقنا الخبيث وإعتبر الكلام هنا أنه دعوة لدعم الحشيش والهيروين والكوكايين ونزولهم على دفاتر التموين، سأضطر آسفاً للرد عليه بألفاظ نابية !)

صديقى الخبيث الممل يسأل بطريقته المعتاده: "إذن أنت ترى أن التحضر يعنى إباحة العرى؟؟"

حسناً هذا السؤال أقل غباء نوعاً ما ! فى الحقيقة انا أرى أن قمة التحضر هى مقاطعة العرى. إن قمة التحضر هى أن يقوم أحد المنتجين بإنتاج فيلم هابط مسف ونقوم نحن بإسقاطه عن طريق مقاطعته ثم يتم رفعه من السينما خلال أسبوع من عرضه وذلك لفشله الشديد، هذا هو التحضر الحقيقى، فالتحضر ليس أبداً أن تقوم بمنع نزول فيلم بدور العرض، فقط ليتداوله الشباب جميعاً ليعرفوا سبب منعه!

إذا كنا شعباً إختار لنفسه الحرية حقاً، فلنكن ناضجين فكرياً بالشكل الكافى لنراقب أنفسنا ذاتياً، نحن لا نحتاج لحكومة رقيبة تحجب عن الشعب المراهق ما قد يضره، وتقدم له ما قد ينفعه، فكلنا نعلم جيداً أننا لو حبسنا الشعب كله فى قمقم فسيصل فى النهاية إلى مبتغاه رغم كل شىء.

قم بتربية أولادك على مقاطعة تلك الأشياء تكون قد أديت رسالتك صحيحة وكاملة. وأعلم أنك إذا طالبت بمنعها فكأنك بالضبط تطالب بنشرها أكثر وأكثر.



- "متاكلش قدامى وانا صايم" -

عبارة كوميدية يرددها الكثيرون، على سبيل إدعاء المزاح معظم الوقت، لكنها لا تكون مزاحاً بنسبة مائة بالمائة أبداً، وهى تدل على تفكير ملتوى غريب. وصلت الكوميديا بالأمر منذ حوالى أربع سنوات أن الناس أثنت على سلوك بعض الضباط اللذين كانوا يداهمون القهاوى التى تضم المفطرين فى نهار رمضان، ويقبضون عليهم، ويضربوهم ويسحلوهم فى الأقسام ثم يطلقون سراحهم، وطالبوا الحكومة بتعميم هذا السلوك المريض تحت دعوى حفظ الأخلاق العامة!

إن جوهر الصيام فى جميع الأديان والحضارات واحد: هو تمكين الإنسان من كبح جماح الجسد والشهوات، والسيطرة عليهم وإخضاعهم. فكيف إذن تجاهد ضد شىء غير موجود أصلاً؟ إذا قمت بحبسك فى غرفة مغلقة طوال وقت الصيام تحت دعوى أننى "أحميك" من أن تضعف وتأكل، هل تعتبر صائماً؟ أى أجر تأخذ ولماذا وأنت قد أجبرت تماماً على الصيام، بينما لو كانت واتتك الفرصة لتأكل لكنت فعلتها فوراً؟

انا شخصياً أرى أننى إذا لم تكن الأشياء التى أحاول الجهاد ضدها موجودة، فإن صيامى يعتبر غير ذى قيمة، وذلك لإنتفاء وجود ما أصوم عنه (أى أمنع نفسى عنه) من الأساس !!!! و نعود ونطرح نفس السؤال على صديقى الخبيث: هل تكمن مشكلتك فى منع "نجاح" الشخص فى الوصول للأكل؟ أم أن مشكلتك فى إستعداده للتضحية بالصوم من الأصل؟

إن الشخص الصائم الذى يقوم بتعنيف كل من يفطر أمامه طالباً منه أن يفطر فى الخفاء هو ببساطة:

1) مخادع وكاذب: لأن الله طلب من الصائم أن يكبح جماح شهواته، بينما هو يصرخ مطالباً بإخفاء الأكل من أمامه كأنما يحاول خداع الله مدعياً أنه صائم، ولكن فى الحقيقة هو ليس كذلك نهائياً !

2) أنانى ومنافق: لأنه مُطالَب بشدة بأن ينصح المفطر بالحسنى، لا بإخفاؤه من أمامه. من يطالب بعقاب المجاهرين بالإفطار أو إخفاؤهم لا يهتم سوى بنفسه وبالمظهر العام لا أكثر ولا أقل.

3) ضعيف الإيمان: فإذا كان لا يتحمل رؤية شخص يأكل فى العلن ويرى أن هذا يضعفه ويدعوه للإفطار هو الآخر، ألا يدعونا هذا للتساؤل عما قد يفعله وهو وحده فى المنزل بدون رقيب؟؟

كُن على قدر من القوة يجعل المُفطِر يرى فيك النموذج والقدوة، يجعله يتمنى أن يصبح فى مثل قوتك لا يهتز له جفن، لا أن تبدو أمامه بمظهر الفأر المذعور من خياله!


- محطة تجمّع الخطوط -
يبدو أن صديقنا الخبيث عاد مرة أخرى، أعتقد أننا تكونت بيننا ألفة ما من كثرة ما مررنا به معاً. بالطبع هو يتسائل: "هل يعنى كلامك إتاحة وتسهيل الوصول للخطأ، وذلك لكى ننال البركات العظام عندما نمنع أنفسنا عنها؟"

لم يتحدث أحد عن "تسهيل" الوصول للخطأ، لكن اسأل نفسك لماذا لم يخفى الله الشجرة من أمام آدم ويحل المشكلة كلها من البداية؟ ألم يكن ذلك أكثر سهولة؟ لكن الله لم يفعل ذلك، بل قام بتحذيره من خطورة ذلك، ثم ترك له حرية إتخاذ القرار فقط ليتعلم معنى فكرة الإرادة، "هذا سيتسبب لك فى ضرر، فإذا صممت على فعله فلتتحمل تبعات ذلك".

هكذا فقط تشكلت الطبيعة الإنسانية وعرفنا معنى حرية الإختيار، وعرفنا معنى الثواب والعقاب.

والآن...

هل أستطعت رؤية النمط الفكرى المريض القابع خلف المطالبة بوجوب ((إخفاء)) الأكل من أمام الصائم، و((حجب)) المواقع الإباحية عن الناس، و ((تغطية)) الفتيات أمام الرجال؟؟ هل أدركت الآن الحقيقة خلف ما يطالبون به؟؟

إذا كنت قد لاحظت الخيط الواصل بين كل تلك الأشياء، فلقد حللت الفزورة، فهنيئاً لك.

أندرو جورج
16-12-2011

10 سبتمبر 2011

خواطر سوداوية إيجابية

أعانى من إكتئاب وفراغ شديدين، رغم أننى حالياً أعمل وأعلم جيداً ما أريده، هدفى الوحيد حالياً كهدف المليارات ممن سبقونى ومن سيأتوا بعدى، مستقبل أفضل! كلمة مطاطة ليس لها أى معالم، ليس لها شكل محدد، أو إطار زمنى أو أى شىء يجعلنى أرى حدودها. حالة تذكرنى بألعاب الستراتيجى التى كنت أحب لعبها على الحاسب فى طفولتى المشردة عندما كان لا يظهر لى سوى بقعة الأرض المحيطة بى والباقى مظلم تماماً لا أعلم محتواه! كنت فيما سبق أشعر بالراحة نوعاً ما، لا لشىء سوى أننى كان لدىّ أهداف صريحة محددة المعالم محدودة بإطار زمنى معروف، مثلاً عندما كنت فى الجامعة، كان لدّى عدد محدد من المواد وكميات معروفة من المواضيع التى يجب أن أدرسها لكى أدخل إمتحان فى اليوم الفلانى، ثم أنجح فيه، وحينها فقط أشعر بطعم النجاح وأننى أنهيت خطوة فى المشوار و وصلت لـ Checkpoint ما فى الطريق، لكن الآن...؟

منذ فترة قريبة حدثت حالة وفاة قريبة من أحد معارفي، وبحكم العادة وبعد الصلاة توجهنا إلى المدافن، و كعادتى فى هذا الموقف العصيب بالذات اؤخر من خطواتى حتى أبتعد عن مركز الحدث قدر الإمكان، ناظراً حولى فى إستهبال واضح راسماً هيئة المتأمل الحزين، حينها لا أعلم لماذا سقطت عينى على ذلك الإسم بالذات، لم يكن إسماً مميزاً بالمرة حتى أننى لا أذكره الآن، لنفترض أنه كان "سمير بولس"، ثم سقطت عينى على التاريخ لأرى أن هذا الشخص توفى فى الستينيات، كان هذا أقدم تاريخ أراه بعينى لشخص "عادى" مات ودفن و...بس كده !


فى هذه اللحظة جال بخاطرى العديد من الأفكار التى لا أدرى ما الذى تسبب فيها: من كان ذلك الشخص؟ ماذا كان يعمل؟ ما هى إنجازاته فى الحياة؟ هل كان موظفاً لا يعيش سوى لكى يربى أولاده ثم يموت فى صمت كالكثيرين غيره؟ واحداً ممن كانوا يعودون إلى منازلهم بالبطيخة والجريدة، والتى يجلس لاحقاً بعد الغداء ليقرأها فى بلكونة شقته بالفانلة الداخلية و كوب الشاى، ثم يموت فجأة فى سن الخمسين بسبب إنسداد الشرايين بالكوليسترول ويختفى من الوجود كأنه لم يكن؟


سألت نفسى ما الذى تبقى من هذا الرجل الآن؟ وبالتأكيد لا أعنى الناحية المادية، ولكن فى العموم. هذا الشخص توفى فى أواخر الستينيات، أى أنه ببعض الإفتراضات والحسابات البسيطة، لو كان هذا الرجل تزوج فى الثلاثين وتوفى فى سن السبعين أو الثمانين، لكان أبناؤه الآن توفوا بالفعل أو على أفضل تقدير شارفوا على الوفاة بالتأكيد! وبالطبع جميع أصدقاؤه ومعارفه رحلوا منذ زمان طويل بالفعل.إذا كان كل ما تبقى من هذا الرجل هو مجرد ذكري طيبة فى روؤس معارفه، فماذا سيحدث عندما يرحلون جميعاً عن الدنيا؟؟... سيختفى تماماً، سينمحى كيانه كلية من الوجود! إذا كانوا يقولون دائماً أن الإنسان عندما يرحل لا يترك سوي الذكرى الطيبة، فماذا عن إختفاء حتي تلك الذكري بعد إنقضاء عدد قليل جداً من الأعوام؟ هل تخيلت من قبل ماذا سيحدث عندما تموت ثم يموت من كانوا يعرفونك جميعاً وكيف ستندثر تماماً حينها وسط مليارات المليارات من البشر الذين ظهروا على وجه الكرة الأرضية؟



جميع أصدقائى يعرفون جيداً كم أكره محافظة القاهرة، ولكن لم أصارح أحد من قبل بالسبب الرئيسى لكراهيتى لها، ربما لم أصارح نفسى حتى من قبل، أحد أكثر الأسباب التى تجعلنى أكره زيارة العاصمة هى "إحساس النملة" الذى ينتابنى بمجرد وصولى ميدان رمسيس اللعين، فبمجرد نزولى هناك فى وسط كل تلك الأعداد الخرافية من البشر أرى فى داخل رأسى ذلك المشهد السينمائى الشهير بالتصوير البطىء لمجموعات ضخمة من البشر تعبر الطريق فوق خطوط عبور المشاة فى إتجاهات متعاكسة، ثم تصعد الكاميرا إلى الأعلى فى قفزات متتالية سريعة إلى أن يتحول جميع الأشخاص فى النهاية إلى مجرد نقاط سوداء بعيدة لا يمكنك تمييزها، أتحول بإختصار إلى شىء حقير لا يُرى بالعين المجردة !


يقولون أن الشخص الذى يشعر أنه مهم هو الذى يعانى من الغرور والتكبّر، وأن الشخص الذى يعلم كم هو صغير هو الذى يحوز فضيلة الإتضاع، لكن ماذا عن شخص يعلم تماماً ويقيناً كم هو صغير فى هذا العالم، ولكنه يريد تغيير تلك الحقيقة؟! لا أعلم، ربما أفكارى تلك سببها إنتفاخ شديد فى الـ"أنا" لم يسبقنى إليه أحداً من قبل، فبالنسبة لى شخصياً لم أستطع حتى الآن إيجاد -على سبيل المثال- ذلك الخط الفاصل بين الثقة بالنفس والغرور والذى يتحدث عنه الجميع وكأنهم يعلمونه جيدا،ً بينما هم لا يستطيعون تمييز حتى حدوده !

مثلاً انا أرى دائماً عندما أتقدم لأى وظيفة أننى أفضل شخص مرشح لها، فهل هذه ثقة بالنفس أم غرور؟ إن قلت لى أنها غرور لأنه بالتأكيد هناك من هو أفضل منك سأرد عليك أننى أعرف قدراتى جيداً وانا مصرّ على أننى أفضل شخص لهذه الوظيفة، وبالمناسبة هذه هى الإجابة الوحيدة المقبولة فى أى مقابلة عمل شخصية، فمن غير المنطقى أن تتواضع وتجيب من يجرى معك المقابلة بـ"نعم يا عزيزى بالتأكيد هناك من هو أفضل منى، فقط عليكم أن تبحثوا عنه جيداً"! على أى حال هذه نقطة جانبية وليست محور الموضوع.

الحقيقة أننى لا أريد أن أنمحى من الوجود بعد إنقضاء جيلين أو ثلاثة، فبعد إختفاء معارفك وأصدقائك واللذين "يذكرونك بالخير" كما قلنا من قبل، ما الذى سيتبقى منك؟ بعد موت آخر شخص كان يعرفك، ما الذى سيتبقى منك؟ بالتأكيد لا أقصد إسمك الذى سيكون موضوعاً على قطعة من الرخام ليراه أحد الحمقى أمثالى بعد سنوات طويلة ويتسائل من يا ترى كان هذا الشخص المجهول الهوية !

ملحوظة: حاولت مراراً تذكّر لمن كانت الجنازة التى حضرتها وتحدثت عنها فى بداية المقال، لكن لم أتمكن من ذلك نهائياً، يبدو أننى حضرت الكثير من الجنازات حتى لأنى لم اعد أذكر تلك التفاصيل التافهة مثل شخصية المتوفى !

اندرو جورج 
09/09/2011

09 مارس 2011

أحياناً يجب أن تنظر إلى الخلف



منذ أن كنت طفلاً وكان يشغلنى دائماً نموذج الطفل الروبوتى الأنانى، هذا الطفل الذى ربّاه أهله على مبادىء مثل "مش مهم أى حاجة المهم تطلع الأول على الفصل" و "إياك تسمح لحد من صحابك يعطلك عن مذاكرتك" و"مصلحتك أهم حاجة"، تلك المبادى التى تجعل الطفل ينشأ مصاباً بمتلازمة الشهيرة، لتجده طفلاً لا يأبه لشىء سوى نجاحه الشخصى، لا يهتم كثيراً بمشاعر من هم حوله، يتخلص من كل صديق مستواه الدراسى يقل عنه ولو قليلاً فـ"مصلحتك أهم حاجة" ولا يماثلها شىء آخر أهمية، ولا حتى العلاقات الإنسانية !

كل همّه أن يتقدم إلى الأمام مقطّعاً أى رباط قد يمنعه من التقدم حتى ولو كان أهم الرباطات الشخصية لديه، ولو شعر للحظة أن شىء ما قد يبطىء تقدمه ولو قليلاً فهو يتخلى عنه دون أن يفكّر لحظة مهما كانت أهمية هذا الشىء، حتى ولو كان أقرب الأصدقاء أو الأحباء، كلما همّ بإتخاذ أى قرار يتردد فى رأسه الصوت القائل "مصلحتك أهم حاجة" فلا يطيل التفكير كثيراً...

نعم انا هنا مازلت أتحدث عن الأطفال، فقط أغمض عيناك وعد بذاكرتك إلى الوراء قليلاً وانا متأكد أنك ستعلم ما أتحدث عنه، فإما أنك كنت أحد هؤلاء، أو أنك عرفت بعضاً منهم فى طفولتك، فقد كان يوجد منهم إثنان على الأقل فى كل فصل فى المرحلة الإبتدائية بالتحديد! لكن هذا النموذج لم يكن ذا تأثير خطير، من منا قد يحزن الآن عندما يتذكر أن أحد أصدقائه فى مرحلة الطفولة فضّل عنه شيئاً آخر على أى حال؟؟
عندما كنا أطفالاً كنا سريعى النسيان، تشفى جروحنا وتختفى بسرعة البرق، ولا يبقى منها شيئاً بعد فترة وجيزة.

مرّت سنون كثيرة وكبرنا وسقط هذا النموذج من ذاكرتنا تماماً، حتى وصلنا إلى مرحلة الدراسة الجامعية ووجد كل منا مجموعة الأصدقاء القريبة منه التى يرتاح لوجوده فى وسطها، تلك المجموعة التى يشعر معها بالدفء، التى يعلم جيداً أنهم على إستعداد للوقوف إلى جانبه مهما كلّف الأمر، أنهم حتى على إستعداد لتلقّى الرصاص من أجله.

ولكن لأن الزمن لا يبطىء أبداً فإن تلك الفترة تجرى أيضاً بكل ما فيها من أوقات جميلة، وبكل ما فيها من جروح غائرة، وبكل ما فيها من علامات تركتها على وجوهنا و أرواحنا، حتى لتشعر أن تلك الفترة قبل أن تنتهى قامت بإعادة تشكيلك من الداخل تماماً كما يفعل النحّات بقطعة الحجر الصماء، تمر تلك الفترة أيضاً وفى النهاية لا يتبقى لك منها سوى هؤلاء الأصدقاء اللذين ظفرت بهم.

بعدها تأتى تلك المرحلة البغيضة، المرحلة التى تشهد محاولاتك المستميتة للحفاظ على من كانوا حولك وكأنك تتحدى الزمن الذى يحاول بكل ما أوتى من قوة التفريق بينهم وبينك، تستميت فى الدفاع عن حقك فى الإحتفاظ بهم، تصبح كالمخبول الذى يحارب فى كل الإتجاهات للحفاظ على علاقاته بهذا وذاك دون أن يسقط منه أحداً، فقط لتفاجأ ببعضهم وقد  قرر بنفسه الإبتعاد والتخلى عن كل شىء، والمضى قدماً بحياته دون أى سبب واضح، وتبدأ فى ملاحظة تلك الأعراض الشهيرة عليه وأنت صامت ومكبّل تماماً لا تعلم ما يجب فعله !

وكأنهم أدركوا أهمية الوقت فجأة، ينقلب حالهم تماماً، يقررون إسقاط جميع العلاقات الإنسانية التى كانت تجمعهم بأصدقاء الكفاح معتقدين أن إسقاط تلك الفترة التى كانت مليئة بالجروح القديمة هو شرط أساسى لدفعهم إلى الأمام <..>، تجده يبدأ فى الإبتعاد والإنسلاخ عن المجموعة بالتدريج، ولأن الضمير الإنسانى عادة لا يسمح لصاحبه بأن يفعل ذلك بسهولة، تجد هذا الشخص يقوم بتبرير ما يفعله لنفسه بأى سبب ساذج أبسطهم إنشغاله الدائم، ثم يقوم بتخدير ضميره تماماً بأن يحضر المناسبات التى يراها هامة فقط، فتجده يظهر مجاملاً بإستمرار فى جميع الأفراح والجنازات الخاصة بأصدقاؤه وكأنه يقوم بعمل الواجب، أما أن يقرر الخروج مع نفس مجموعة الأصدقاء لقضاء بعض الوقت معهم فهذا يحتاج لحسابات طويلة، فمن المؤكد أن هناك الكثير من الأشياء الهامة التى هى أولى بأن يفعلها فى مكان ما !

أذكر جيداً أثناء دراستى فى الكلية بعض تلك الخواطر التى كانت تأتينى بخصوص الأشخاص الآليين اللذين كنت أقابلهم بإستمرار، هؤلاء اللذين يتحركون وكأنهم يعملون بالريموت كونترول، وقتهم هو أثمن ما لديهم ولا يقدّرون أى شىء آخر، كنت دائماً اتسائل كيف يعيش هؤلاء؟ إذا كانوا يبخلون بوقتهم هكذا دائماً على من حولهم فكيف يعيشون؟ كيف يتعامل هذا الشخص مع أصدقائه وأقربائه؟ ولكن هذا لم يكن ليشغلنى كثيراً فأنا لم أكن أعرفهم جيداً على أى حال، أما أن تجد بعض أقرب الناس لك يتحولون لهذا النموذج، فهذا شىء يستحق التوقف عنده.

و لأنى كنت ألاحظ هذا النموذج دائماً وكنت ممن عانوا من آلام فقدان بعض أقرب معارفهم فى تلك الدوامة، قررت بمجرد أن تخرجت و وجدت فرصة عمل ألا أتحول مهما حدث إلى هذا النموذج الأنانى الذى أمقته أشد المقت، إتخذت قراراً ألا أفوّت أى فرصة لرؤية أصدقائى حتى لو كنت مقتولاً من الإجهاد ولدىّ من الأشياء ما يحتاج إلى الوقت بالفعل، قررت أننى لن أسمح لنفسى أن أتحوّل إلى إنسان آلى خال من المشاعر، لا ينظر سوى فى إتجاه الأمام متحاشياً تماماً رؤية من يقفون بجانبه، كيان خاوى لا يهتم بشىء سوى وقته الذى أصبح فجأة وبدون سبب أثمن من أن يضيع برفقة مجموعة من الأصدقاء.

لا أعلم لماذا قررت فجأة كتابة خواطرى بخصوص هذا الموضوع، لكنى عندما جائتنى تلك الأفكار اليوم لم أستطع إلا أن أكتبها، لعلها تنبه شخص لم يبدأ فى التحوّل بعد من تبعات الدخول فى هذا الطريق، أو تدق ناقوساً لدى أحد من ضاعوا فيه بالفعل فتردّه إلى صوابه قبل فوات الأوان.

فقط حاول أن تعطى بعضاً من وقتك لأحباءك، وتأكد تماماً أن هناك مجموعة من الحمقى فى مكان ما يفتقدون وجودك فى وسطهم بشدة، لكنهم أصبحوا يتحاشون التحدث عنك، ليس لأنهم نسوك، ولكن لأنهم يشعرون بغصة شديدة فى حلوقهم بمجرد تذكر فقدانهم لك بسبب أنانيتك التى لم تستطع أنت التحكم فيها.

أندرو جورج
09/03/2011