09 مارس 2011

أحياناً يجب أن تنظر إلى الخلف



منذ أن كنت طفلاً وكان يشغلنى دائماً نموذج الطفل الروبوتى الأنانى، هذا الطفل الذى ربّاه أهله على مبادىء مثل "مش مهم أى حاجة المهم تطلع الأول على الفصل" و "إياك تسمح لحد من صحابك يعطلك عن مذاكرتك" و"مصلحتك أهم حاجة"، تلك المبادى التى تجعل الطفل ينشأ مصاباً بمتلازمة الشهيرة، لتجده طفلاً لا يأبه لشىء سوى نجاحه الشخصى، لا يهتم كثيراً بمشاعر من هم حوله، يتخلص من كل صديق مستواه الدراسى يقل عنه ولو قليلاً فـ"مصلحتك أهم حاجة" ولا يماثلها شىء آخر أهمية، ولا حتى العلاقات الإنسانية !

كل همّه أن يتقدم إلى الأمام مقطّعاً أى رباط قد يمنعه من التقدم حتى ولو كان أهم الرباطات الشخصية لديه، ولو شعر للحظة أن شىء ما قد يبطىء تقدمه ولو قليلاً فهو يتخلى عنه دون أن يفكّر لحظة مهما كانت أهمية هذا الشىء، حتى ولو كان أقرب الأصدقاء أو الأحباء، كلما همّ بإتخاذ أى قرار يتردد فى رأسه الصوت القائل "مصلحتك أهم حاجة" فلا يطيل التفكير كثيراً...

نعم انا هنا مازلت أتحدث عن الأطفال، فقط أغمض عيناك وعد بذاكرتك إلى الوراء قليلاً وانا متأكد أنك ستعلم ما أتحدث عنه، فإما أنك كنت أحد هؤلاء، أو أنك عرفت بعضاً منهم فى طفولتك، فقد كان يوجد منهم إثنان على الأقل فى كل فصل فى المرحلة الإبتدائية بالتحديد! لكن هذا النموذج لم يكن ذا تأثير خطير، من منا قد يحزن الآن عندما يتذكر أن أحد أصدقائه فى مرحلة الطفولة فضّل عنه شيئاً آخر على أى حال؟؟
عندما كنا أطفالاً كنا سريعى النسيان، تشفى جروحنا وتختفى بسرعة البرق، ولا يبقى منها شيئاً بعد فترة وجيزة.

مرّت سنون كثيرة وكبرنا وسقط هذا النموذج من ذاكرتنا تماماً، حتى وصلنا إلى مرحلة الدراسة الجامعية ووجد كل منا مجموعة الأصدقاء القريبة منه التى يرتاح لوجوده فى وسطها، تلك المجموعة التى يشعر معها بالدفء، التى يعلم جيداً أنهم على إستعداد للوقوف إلى جانبه مهما كلّف الأمر، أنهم حتى على إستعداد لتلقّى الرصاص من أجله.

ولكن لأن الزمن لا يبطىء أبداً فإن تلك الفترة تجرى أيضاً بكل ما فيها من أوقات جميلة، وبكل ما فيها من جروح غائرة، وبكل ما فيها من علامات تركتها على وجوهنا و أرواحنا، حتى لتشعر أن تلك الفترة قبل أن تنتهى قامت بإعادة تشكيلك من الداخل تماماً كما يفعل النحّات بقطعة الحجر الصماء، تمر تلك الفترة أيضاً وفى النهاية لا يتبقى لك منها سوى هؤلاء الأصدقاء اللذين ظفرت بهم.

بعدها تأتى تلك المرحلة البغيضة، المرحلة التى تشهد محاولاتك المستميتة للحفاظ على من كانوا حولك وكأنك تتحدى الزمن الذى يحاول بكل ما أوتى من قوة التفريق بينهم وبينك، تستميت فى الدفاع عن حقك فى الإحتفاظ بهم، تصبح كالمخبول الذى يحارب فى كل الإتجاهات للحفاظ على علاقاته بهذا وذاك دون أن يسقط منه أحداً، فقط لتفاجأ ببعضهم وقد  قرر بنفسه الإبتعاد والتخلى عن كل شىء، والمضى قدماً بحياته دون أى سبب واضح، وتبدأ فى ملاحظة تلك الأعراض الشهيرة عليه وأنت صامت ومكبّل تماماً لا تعلم ما يجب فعله !

وكأنهم أدركوا أهمية الوقت فجأة، ينقلب حالهم تماماً، يقررون إسقاط جميع العلاقات الإنسانية التى كانت تجمعهم بأصدقاء الكفاح معتقدين أن إسقاط تلك الفترة التى كانت مليئة بالجروح القديمة هو شرط أساسى لدفعهم إلى الأمام <..>، تجده يبدأ فى الإبتعاد والإنسلاخ عن المجموعة بالتدريج، ولأن الضمير الإنسانى عادة لا يسمح لصاحبه بأن يفعل ذلك بسهولة، تجد هذا الشخص يقوم بتبرير ما يفعله لنفسه بأى سبب ساذج أبسطهم إنشغاله الدائم، ثم يقوم بتخدير ضميره تماماً بأن يحضر المناسبات التى يراها هامة فقط، فتجده يظهر مجاملاً بإستمرار فى جميع الأفراح والجنازات الخاصة بأصدقاؤه وكأنه يقوم بعمل الواجب، أما أن يقرر الخروج مع نفس مجموعة الأصدقاء لقضاء بعض الوقت معهم فهذا يحتاج لحسابات طويلة، فمن المؤكد أن هناك الكثير من الأشياء الهامة التى هى أولى بأن يفعلها فى مكان ما !

أذكر جيداً أثناء دراستى فى الكلية بعض تلك الخواطر التى كانت تأتينى بخصوص الأشخاص الآليين اللذين كنت أقابلهم بإستمرار، هؤلاء اللذين يتحركون وكأنهم يعملون بالريموت كونترول، وقتهم هو أثمن ما لديهم ولا يقدّرون أى شىء آخر، كنت دائماً اتسائل كيف يعيش هؤلاء؟ إذا كانوا يبخلون بوقتهم هكذا دائماً على من حولهم فكيف يعيشون؟ كيف يتعامل هذا الشخص مع أصدقائه وأقربائه؟ ولكن هذا لم يكن ليشغلنى كثيراً فأنا لم أكن أعرفهم جيداً على أى حال، أما أن تجد بعض أقرب الناس لك يتحولون لهذا النموذج، فهذا شىء يستحق التوقف عنده.

و لأنى كنت ألاحظ هذا النموذج دائماً وكنت ممن عانوا من آلام فقدان بعض أقرب معارفهم فى تلك الدوامة، قررت بمجرد أن تخرجت و وجدت فرصة عمل ألا أتحول مهما حدث إلى هذا النموذج الأنانى الذى أمقته أشد المقت، إتخذت قراراً ألا أفوّت أى فرصة لرؤية أصدقائى حتى لو كنت مقتولاً من الإجهاد ولدىّ من الأشياء ما يحتاج إلى الوقت بالفعل، قررت أننى لن أسمح لنفسى أن أتحوّل إلى إنسان آلى خال من المشاعر، لا ينظر سوى فى إتجاه الأمام متحاشياً تماماً رؤية من يقفون بجانبه، كيان خاوى لا يهتم بشىء سوى وقته الذى أصبح فجأة وبدون سبب أثمن من أن يضيع برفقة مجموعة من الأصدقاء.

لا أعلم لماذا قررت فجأة كتابة خواطرى بخصوص هذا الموضوع، لكنى عندما جائتنى تلك الأفكار اليوم لم أستطع إلا أن أكتبها، لعلها تنبه شخص لم يبدأ فى التحوّل بعد من تبعات الدخول فى هذا الطريق، أو تدق ناقوساً لدى أحد من ضاعوا فيه بالفعل فتردّه إلى صوابه قبل فوات الأوان.

فقط حاول أن تعطى بعضاً من وقتك لأحباءك، وتأكد تماماً أن هناك مجموعة من الحمقى فى مكان ما يفتقدون وجودك فى وسطهم بشدة، لكنهم أصبحوا يتحاشون التحدث عنك، ليس لأنهم نسوك، ولكن لأنهم يشعرون بغصة شديدة فى حلوقهم بمجرد تذكر فقدانهم لك بسبب أنانيتك التى لم تستطع أنت التحكم فيها.

أندرو جورج
09/03/2011