10 سبتمبر 2011

خواطر سوداوية إيجابية

أعانى من إكتئاب وفراغ شديدين، رغم أننى حالياً أعمل وأعلم جيداً ما أريده، هدفى الوحيد حالياً كهدف المليارات ممن سبقونى ومن سيأتوا بعدى، مستقبل أفضل! كلمة مطاطة ليس لها أى معالم، ليس لها شكل محدد، أو إطار زمنى أو أى شىء يجعلنى أرى حدودها. حالة تذكرنى بألعاب الستراتيجى التى كنت أحب لعبها على الحاسب فى طفولتى المشردة عندما كان لا يظهر لى سوى بقعة الأرض المحيطة بى والباقى مظلم تماماً لا أعلم محتواه! كنت فيما سبق أشعر بالراحة نوعاً ما، لا لشىء سوى أننى كان لدىّ أهداف صريحة محددة المعالم محدودة بإطار زمنى معروف، مثلاً عندما كنت فى الجامعة، كان لدّى عدد محدد من المواد وكميات معروفة من المواضيع التى يجب أن أدرسها لكى أدخل إمتحان فى اليوم الفلانى، ثم أنجح فيه، وحينها فقط أشعر بطعم النجاح وأننى أنهيت خطوة فى المشوار و وصلت لـ Checkpoint ما فى الطريق، لكن الآن...؟

منذ فترة قريبة حدثت حالة وفاة قريبة من أحد معارفي، وبحكم العادة وبعد الصلاة توجهنا إلى المدافن، و كعادتى فى هذا الموقف العصيب بالذات اؤخر من خطواتى حتى أبتعد عن مركز الحدث قدر الإمكان، ناظراً حولى فى إستهبال واضح راسماً هيئة المتأمل الحزين، حينها لا أعلم لماذا سقطت عينى على ذلك الإسم بالذات، لم يكن إسماً مميزاً بالمرة حتى أننى لا أذكره الآن، لنفترض أنه كان "سمير بولس"، ثم سقطت عينى على التاريخ لأرى أن هذا الشخص توفى فى الستينيات، كان هذا أقدم تاريخ أراه بعينى لشخص "عادى" مات ودفن و...بس كده !


فى هذه اللحظة جال بخاطرى العديد من الأفكار التى لا أدرى ما الذى تسبب فيها: من كان ذلك الشخص؟ ماذا كان يعمل؟ ما هى إنجازاته فى الحياة؟ هل كان موظفاً لا يعيش سوى لكى يربى أولاده ثم يموت فى صمت كالكثيرين غيره؟ واحداً ممن كانوا يعودون إلى منازلهم بالبطيخة والجريدة، والتى يجلس لاحقاً بعد الغداء ليقرأها فى بلكونة شقته بالفانلة الداخلية و كوب الشاى، ثم يموت فجأة فى سن الخمسين بسبب إنسداد الشرايين بالكوليسترول ويختفى من الوجود كأنه لم يكن؟


سألت نفسى ما الذى تبقى من هذا الرجل الآن؟ وبالتأكيد لا أعنى الناحية المادية، ولكن فى العموم. هذا الشخص توفى فى أواخر الستينيات، أى أنه ببعض الإفتراضات والحسابات البسيطة، لو كان هذا الرجل تزوج فى الثلاثين وتوفى فى سن السبعين أو الثمانين، لكان أبناؤه الآن توفوا بالفعل أو على أفضل تقدير شارفوا على الوفاة بالتأكيد! وبالطبع جميع أصدقاؤه ومعارفه رحلوا منذ زمان طويل بالفعل.إذا كان كل ما تبقى من هذا الرجل هو مجرد ذكري طيبة فى روؤس معارفه، فماذا سيحدث عندما يرحلون جميعاً عن الدنيا؟؟... سيختفى تماماً، سينمحى كيانه كلية من الوجود! إذا كانوا يقولون دائماً أن الإنسان عندما يرحل لا يترك سوي الذكرى الطيبة، فماذا عن إختفاء حتي تلك الذكري بعد إنقضاء عدد قليل جداً من الأعوام؟ هل تخيلت من قبل ماذا سيحدث عندما تموت ثم يموت من كانوا يعرفونك جميعاً وكيف ستندثر تماماً حينها وسط مليارات المليارات من البشر الذين ظهروا على وجه الكرة الأرضية؟



جميع أصدقائى يعرفون جيداً كم أكره محافظة القاهرة، ولكن لم أصارح أحد من قبل بالسبب الرئيسى لكراهيتى لها، ربما لم أصارح نفسى حتى من قبل، أحد أكثر الأسباب التى تجعلنى أكره زيارة العاصمة هى "إحساس النملة" الذى ينتابنى بمجرد وصولى ميدان رمسيس اللعين، فبمجرد نزولى هناك فى وسط كل تلك الأعداد الخرافية من البشر أرى فى داخل رأسى ذلك المشهد السينمائى الشهير بالتصوير البطىء لمجموعات ضخمة من البشر تعبر الطريق فوق خطوط عبور المشاة فى إتجاهات متعاكسة، ثم تصعد الكاميرا إلى الأعلى فى قفزات متتالية سريعة إلى أن يتحول جميع الأشخاص فى النهاية إلى مجرد نقاط سوداء بعيدة لا يمكنك تمييزها، أتحول بإختصار إلى شىء حقير لا يُرى بالعين المجردة !


يقولون أن الشخص الذى يشعر أنه مهم هو الذى يعانى من الغرور والتكبّر، وأن الشخص الذى يعلم كم هو صغير هو الذى يحوز فضيلة الإتضاع، لكن ماذا عن شخص يعلم تماماً ويقيناً كم هو صغير فى هذا العالم، ولكنه يريد تغيير تلك الحقيقة؟! لا أعلم، ربما أفكارى تلك سببها إنتفاخ شديد فى الـ"أنا" لم يسبقنى إليه أحداً من قبل، فبالنسبة لى شخصياً لم أستطع حتى الآن إيجاد -على سبيل المثال- ذلك الخط الفاصل بين الثقة بالنفس والغرور والذى يتحدث عنه الجميع وكأنهم يعلمونه جيدا،ً بينما هم لا يستطيعون تمييز حتى حدوده !

مثلاً انا أرى دائماً عندما أتقدم لأى وظيفة أننى أفضل شخص مرشح لها، فهل هذه ثقة بالنفس أم غرور؟ إن قلت لى أنها غرور لأنه بالتأكيد هناك من هو أفضل منك سأرد عليك أننى أعرف قدراتى جيداً وانا مصرّ على أننى أفضل شخص لهذه الوظيفة، وبالمناسبة هذه هى الإجابة الوحيدة المقبولة فى أى مقابلة عمل شخصية، فمن غير المنطقى أن تتواضع وتجيب من يجرى معك المقابلة بـ"نعم يا عزيزى بالتأكيد هناك من هو أفضل منى، فقط عليكم أن تبحثوا عنه جيداً"! على أى حال هذه نقطة جانبية وليست محور الموضوع.

الحقيقة أننى لا أريد أن أنمحى من الوجود بعد إنقضاء جيلين أو ثلاثة، فبعد إختفاء معارفك وأصدقائك واللذين "يذكرونك بالخير" كما قلنا من قبل، ما الذى سيتبقى منك؟ بعد موت آخر شخص كان يعرفك، ما الذى سيتبقى منك؟ بالتأكيد لا أقصد إسمك الذى سيكون موضوعاً على قطعة من الرخام ليراه أحد الحمقى أمثالى بعد سنوات طويلة ويتسائل من يا ترى كان هذا الشخص المجهول الهوية !

ملحوظة: حاولت مراراً تذكّر لمن كانت الجنازة التى حضرتها وتحدثت عنها فى بداية المقال، لكن لم أتمكن من ذلك نهائياً، يبدو أننى حضرت الكثير من الجنازات حتى لأنى لم اعد أذكر تلك التفاصيل التافهة مثل شخصية المتوفى !

اندرو جورج 
09/09/2011