26 أكتوبر 2012

هل العالم يسوء حقاً؟



- عن الأطفال اللذين لم يعودوا كذلك -
 - جاستن بيبر؟!! هانا مونتانا؟؟!!!! جاستن بيبر الـ...؟ إحم...
- آه، وساعات سبونج بوب.
- سيبك من سبونج بوب دلوقتى، جاستن بيبر وهانا مونتانا؟!!!!!!

كان هذا جزءاً من محادثة بسيطة دارت بينى وبين أحد الأطفال –كما كان يطلق عليهم قديماً- من سن 10 سنوات، عندما سألته عن ما يحب مشاهدته على التلفاز والأغانى التى يفضلها، أصابتنى إجابته بصدمة أعادتنى إلى أيام طفولتى التى بدت لى فى تلك اللحظة شديدة السذاجة والحمق، مجموعة من الأطفال المعاتية تنتظر يوم الجمعة صباحاً بفارغ الصبر، لتشاهد برامج معتوهة يقدمها مجموعة من الكبار الأكثر عتهاً، فقط لكى يصيبونا بالتخلف العقلى، كم كانت طفولتنا رائعة! ولكن بالتأكيد بدا لى ذلك أنه أفضل من مشاهدة سخافات هانا مونتانا وهذا الـ...إحم.

لا يتعلق الأمر بكون هذا الطفل مدلل ولديه تلفاز فى منزله، فمن المؤكد أن أقرانه فى المناطق الشعبية يستمتعون الآن بالشىء الملعون المدعو بالمهرجانات بدلاً من الأشياء الأخرى الرائعة التى كان يسمعها من كانوا فى سنهم فى الماضى أياً كانت، الأمر سيان ولا يوجد فارق كبير. أذكر أننى عندما عدت إلى منزلى فى هذا اليوم أخذت أفكر فى الموقف وأحلله، ثم شعرت بحنين مفاجىء لأغنية المقدمة لمسلسل جرندايزر بصوت الفنان اللبنانى "سامى كلارك" صاحب الصوت الأسطورى، صحيح أننى وقت طفولتى لم أكن أفهم 90% من كلماتها ولم أكن أعرف إسم المغنى لكنها إنطبعت فى ذاكرتى بشكل ما، فقط لأبحث عنها بعد سنوات لاحقة على اليوتيوب وأسمعها لأدرك كم كانت أغنية راقية رائعة (وبالطبع لكى أقول لنفسى كم هى مقززة أغانى المسلسلات الكارتونية فى أيامنا هذه!).

ماذا أصاب هؤلاء فعلاً؟ لماذا يبدو لى أن هناك عملية تسارع بشعة فى النمو حتى صار الطفل يتصرف كمن هو فى أوج مرحلة المراهقة؟ لماذا صار كل شىء الآن معقداً متشابكاً بينما كان فى الماضى بسيطاً وسهلاً ومباشراً؟ لماذا لم تعد تلك الأشياء الطفولية لطيفة بريئة ساذجة كما كانت وصار كل شىء به لمحة نضج وخبث مقززة مخيفة لا تستطيع تبيّن معالمها جيداً؟ ما الذى تغيّر؟ أو بالأحرى من الذى تغيّر؟

حكى لى أحد أصدقائى منذ فترة -وهو خادم بالكنيسة- عن موقف عجيب جداً حدث معه مع أحد أطفال المرحلة الإبتدائية، حيث إتصلت بصديقى هذا أخته لسؤاله عن شىء بينما كان بصحبة أحد الأولاد الصغار، وبعد أن إنتهى من المكالمة سأل الطفل صديقى "كنت بتكلم مين يا أستاذ؟" فرد عليه صديقى "دى أختى يا حبيبى"، فوجىء صديقى برد الطفل عليه ضاحكاً ساخراً متغامزاً "أختك ولا زى أختك يا أستااااذ ؟" !!!

عندما حكى لى صديقى القصة أول مرة ضحكت بشدة ثم أصابنى صمت وحالة "تناحة" مفاجئة، وقلت لصديقى "هو إحنا كان فينا حاجة غلط ولا هما اللى فيهم حاجة غلط؟ انا فاكر كويس إنى مخدتش بالى من وجود كائن إسمه بنات على كوكب الأرض غير فى أولى ثانوى تقريباً!" ضحك صديقى وقال لى "ما كلنا كنا كده، الظاهر إحنا جيل تعبان وعلى قد حاله!" لم أعلق بعدها لأنى لم أجد ما أقوله، حقاً لم أعد أفهم ما الذى تغيّر: العالم أم انا.


- عصر القرود -

 
فى أحد الأيام أثناء عملى السابق لمحت كتاباً مع إحدى الزميلات، وبحكم الفضول الذى ينتابنى كلما رأيت كتاباً سألتها ماذا تقرأ، وطلبت منها أن أطلع عليه فأعطتنى إياه، لأجد كتاب "عصر القرود" للدكتور مصطفى محمود.

وقتها لم أكن قد قرأته من قبل، فأخذته منها بفضول وقمت بالمرور عبر صفحاته، لأعطيه لها مرة أخرى بعد حوالى ربع ساعة قائلاً لها "ده كلام واحد جاله صدمة نفسية من الإنفتاح أفقدته إتزانه، واضح إن الموضوع كان صعب قوى على أعصابه ومقدرش يستحمل، حتى لو كان د. مصطفى محمود شخصياً!"

فى الكتاب، ومنذ السطر الأول، تدرك مدى رعب كاتبه من كل الظواهر المحيطة به، إبتداء من متلازمة فوبيا ملابس المرأة الشهيرة، وترحّمه على أيام كانت المرأة يُنظَر إليها فقط على أنها الأم التى تجسد الرحمة والحنان، مروراً بتعجبه من إزدحام المدن بالناس وإختناق الشوارع وضيق العمارات بسكانها (هذا الكتاب نُشِرت منه الطبعة الأولى عام 1972 إن كنت تتسائل!) ويترحم الكاتب على أيام النسمات الطليقة التى عرفها فى العصر الزراعى، ثم ضيقه من الموسيقى الصاخبة المتمثلة فى الجيتار الكهربائى وإختفاء "صوت الناى الرقيق الخجول" و "صوت العود الذى يداعب ويهمس ويوشوش".

يستمر الكتاب فى مسلسل الترحمات، فيترحم على "الوفاء فى الحب" والذى أصبح "أقصوصة خرافية فى مقابل الحب العصرى فى كافيتريا الجامعة"، ثم يهاجم برنامج "العالم يغنى" الذى يعرض أغانى "كلماتها هى فى إجمالها حمى وهذيان وهلاوس، وحركاتها تترك لديك الإحساس أنك أمام طقوس وثنية بدائية الصنم المعبود فيها هو جسد المرأة"، وأن تلك الثقافة الغريبة زحفت إلى إعلاناتنا وأغانينا لأننا نقلد الغرب تقليداً أعمى، ويتأفف الكاتب من "رقص الصبايا أنصاف العاريات وغناء داليدا المثير والحركات الهستيرية لأنثى أفعوانية مثل كلوديا كاردينالى"، بالطبع إنتقل الكاتب بعدها إلى الحديث عن نهاية العالم، ودليله على ذلك أن أهل الأرض أصبحوا يظنون أنهم تمكنوا من كل شىء بعد أن مشوا على القمر وأصبحوا يزرعون الأجنة وظنوا أنفسهم آلهة، وبعد إنتشار الإنحلال والنساء العاريات (وكأن كل هذه أشياء هبطت فجأة على كوكب الأرض)، وبعد "الفجور الذى أشاعته فى العالم كله أجهزة السينما، والتلفزيون والإذاعة". هذا كان رأى د. مصطفى محمود فى ما حوله فى بداية السبعينات، فى العصر الذى ننظر نحن إليه أنه كان رغداً ورائعاً مقارنة بما نعيشه الآن، فهل بدأت تلاحظ نمطاً ما؟


- رحم الله زماننا -

 
هل العالم يسوء فعلاً؟ أم أن خوفنا من الآتى وكل ما يختلف عن ما خبرناه هو ما يصيبنا بهذا الإحساس الرافض لكل ذلك؟ بالفعل هناك ظواهر غريبة لم أستطع فهمها فى ضوء ذلك التفسير: فأكثر فيديو كليب محترم الآن لو كان عُرض منذ 10 أعوام لأغلقوا القناة للأبد! لكن...ألم يكن الحال هكذا معنا نحن وقت أن كنا أطفالاً ومراهقين؟ أذكر أن والدى –رحمه الله- كان كلما رأى وجة عمرو دياب فى التلفاز ردد: "ايه القرف ده، جايب معاه شوية رقاصين وعمال يتنطط ويقول ويلومونى ما يلومونى؟ فين عبد الحليم حافظ وأم كلثوم وكلامهم الراقى وأفلامهم الجميلة". لكن حتى والدتى حكت لى فى إحدى الأيام عن الحروب والمؤآمرات التى كانت تُحاك ضد الفنان عبد الحليم حافظ من المطربين الكبار وقتها، ووصف جيل الكبار له وقتها أنه "مُطرب الشباب التافة"! يبدو أن حتى عبد الحليم حافظ لم ينجُ من تلك الدائرة وكان فى أحد الأيام يُنظر إليه أنه المطرب السنتيح التافة الذى يسمعه الشباب الرقيع! تماماً كما كانوا يتهمون الفتيات اللاتى كنّ يقرأن روايات إحسان عبد القدوس ويوسف السباعى فى الستينيات بالإنحلال وإنعدام الخلق، وعلى هامش هذا الموضوع لا أنسى بالطبع أن أذكر بالخير نيابة عن أبناء جيلى كل من كانوا يستخفّون بنا عندما كنا نقرأ "رجل المستحيل" و "ما وراء الطبيعة" وكانوا يصرون على تسميتها "ألغازاً"، وأخص بالذكر أستاذ اللغة العربية فى الصف الثانى الثانوى الذى وصف ما وراء الطبيعة عندما رآها فى يدى أنها "قصص شيطانية"!

وعلى سيرة تلك الـ"ألغاز" التى تربينا على يد كتّابها، يحدثنا د. أحمد خالد توفيق فى إحدى مقالاته القديمة التى نُشرت بموقع بص وطل تحت عنوان "انا لم أتغير..الحياة تغيرت" عن ذكريات والده التى كان يحكيها له بإستمرار قائلاً:

" هي الفراخ بتاعتكم دي فراخ؟.. دي عصافير.. كنا بنشتري عربية وفيلا ودستة بيض بنص ريال. كانت الدجاجة بحجم الخروف والخروف بحجم ديناصور ترايسيراتوبس، وكانت للأزهار رائحة حقيقية.. كانت الأغاني أعذب والفتيات أجمل والأفلام أمتع والبشر أنقى.. ".

ثم يحكى لنا الكاتب بعدها إكتشافه أن عصر والده لم يكن بهذا النقاء بعدما قرأ عن ما كان يوجد وقتها من أبشع الحوادث مثل جرائم ريا وسكينة، وحادثة البواب الذى أغتصب الطفلة ذات الثلاثة أعوام إلخ..، وبعدها ينتقل بنا إلى الحاضر حيث أكتشف أنه أصبح يفكر بنفس طريقة والده ويردد نفس الكلام:

"اليوم أنظر أنا بدوري إلى الوراء فيبدو لي أن الحياة كانت أفضل في صباي بكثير. قلت لابني إن الأغاني في عصري كانت أعذب والفتيات أجمل والأفلام أمتع والبشر أنقى... أرغمته على مشاهدة بعض أفلام السبعينيات على غرار (الأب الروحي) و(قصة حب) فشاهدها وقال لي بصراحة إنها (زي الزفت). أغاني البيتلز والآبا والبي جيز (خنيقة) جداً في رأيه.. ولم يحب أية أغنية من أغاني وردة الجزائرية الحارقة في أوائل السبعينيات مثل (حكايتي مع الزمان) و(اسمعوني).. طبعًا لم أحاول أن أسمِعه أم كلثوم فأنا لست مجنونًا.. لن يفهمها ولو بعد مائة عام..

قلت له في غيظ إنه بعد عشرين سنة -أعطاه الله العمر- سوف يُسمع ابنه أغاني (شاجي) و(إنريكي إجلسياس) و(فيرجي) ويعرض عليه أفلام (الرجال إكس) و(الفارس الأسود).. لكن الوغد الصغير سيؤكد له أنها (زبالة)، إلا أن ابني لم يصدق.. يعتقد أن الأخ (شاجي) خالد للأبد.. "


- الحكيم -

بعضهم عندما يُفتح أمامه باب المناقشة بخصوص تلك الظاهرة تجده ينظر لك فى ذكاء خارق مردداً "بالطبع، كل زمان وله أدان". لكن الحقيقة أن الموضوع ليس بتلك البساطة، أكاد أرى نمطاً متكرراً عبر كل تلك العصور ولكنه نمط غريب يصعب تحليله لأن من الإستحالة أن تستمر طفولة شخص واحد لأكثر من جيل، فطفولة الشخص تحدث فى جيل واحد فقط، بعدها يكبر وينضج ويبدأ فى رفض كل ما يلى تلك الحقبة. ولكن يبدو الأمر وكأن هناك نسخاً متكررة منا فى كل عصر: الإنسان المنفتح على ما هو آت والإنسان الخائف من العصر، المُحدث والملتزم بالماضى، المنادى بحرية المرأة ومن يريد للمرأة أن تعود أماً وزوجة فقط وتلزم المنزل، أنظر فى كل عصر سترى المطربة التى يعشقها البعض ويراها البعض تحث على الفسق والفجور، سترى المراهق الذى يقدم على قراءة شىء ما أو الإستماع لشىء ما بينما يراه أهله تفاهة أو فساداً، كل شىء حولنا ما هو إلا مجرد أنماط متكررة حدثت فى كل العصور.

من يعلم...ربما كان هناك نسخ أخرى منى كذلك فى كل عصر تنظر إلى كل ما حولها وتتعجب بنفس الكيفية! لكنى أستبعد ذلك لأننا قبل هذا الزمن كان يصعب عليك أن تضع كافة العصور بمنتهى السهولة إلى جانب بعضها وتقارن، أما فى أيامنا هذه فأنت –على سبيل المثال- تستطيع بنقرة أن تسمع عبد المطلب وكارم محمود، وبنقرة أن تسمع عبد الحليم حافظ، وبنقرة أن تسمع محمد منير، وبنقرة أخرى أن تسمع –أستغفر الله العظبم- أوكا وأورتيجا، فهذه قد تكون بالفعل هى الميزة الوحيدة التى لم تحدث من قبل فى أى عصر من العصور، أن تستطيع أن تضع كل شىء جنباً إلى جنب وتنظر إليه من الأعلى فترى الصورة كاملة وتلاحظ الأنماط المتكررة.

لكن لحظة...ألم يكن هذا هو الحال بالفعل وقت ظهور التلفاز؟؟ أكاد أسمع أحدهم يقول فى إنبهار وهو ينظر إلى شاشة أول تلفاز يراه فى حياته "يا إلهى لقد أصبح العالم صغيراً جداً بعد إختراع هذا الشىء، أصبحت تستطيع أن ترى ما يحدث عبر كل العالم جنباً إلى جنباً فى لحظة واحدة من خلاله!"، وبالتأكيد قيل نفس الشىء وقت ظهور الراديو، ووقت إختراع التليفون، وبرقيات التلغراف، وربما وقت إختراع الكتابة والتدوين فى عصور ما قبل التاريخ!

ستجد هناك دائماً الكثير من المتأملين العباقرة اللذين يقولون بعد قراءة الكتب من نوعية عصر القرود: "هذا الرجل كان عبقرياً وتنبأ بالعصر الذى نعيشه الآن"، لكن الحقيقة ليست كذلك، فالكتاب لا يزيد عن مجرد سرد لخواطر شخص مفزوع من كل ما يحيط به، الحقيقة أنه لا يوجد عصر واحد للقرود، بل أن كل عصر قادم سيبدو لأبناء العصر السابق له عصراً للقرود، فكل ما ذكرناه أكاد أقسم أنه ماهو إلا جزء من دائرة كبيرة لا تأبى إلا أن تعيد نفسها فى كل عصر بشكل يجعلك تتسائل: هل تتقدم البشرية فعلاً؟ أم أن كل مسألة التقدم هذه مجرد وهم كبير نعيشه ونحن فى الحقيقة ندور حول أنفسنا فى حلقات متكررة سخيفة؟ لا أعلم لكن على أى حال أتمنى أن لا يقرأ أحداً فى المستقبل هذا الذى كتبت فيهزأ بى متهماً إياى بالسذاجة!

أندرو جورج
26-10-2012


وصلات متعلقة بالموضوع:
د. مصطفى محمود – عصر القرود

د. أحمد خالد توفيق – انا لم أتغير .. الحياة تغيرت

سامى كلارك يؤدى أغنية جرندايزر العربية – كوميك كون دبى
http://www.youtube.com/watch?v=6ageNZ3Sg-M


هذا المقال نُشر فى موقع جريدة الوطن على 4 حلقات:
http://www.elwatannews.com/news/details/430524
http://www.elwatannews.com/news/details/431198
http://www.elwatannews.com/news/details/434658
http://www.elwatannews.com/news/details/437043