28 نوفمبر 2014

فى التقدم والإرتداد


"لا يمكنك أن تحضر إنسان الكهف وتشرح له كيف يعمل التلفاز مباشرةً، فقبلها سوف تحتاج أن تشرح له معنى الحضارة، والكهرباء، والموجات، إلخ... حتى تصل به إلى مستوى التطور المطلوب الذى يستطيع عنده أن يفهم فكرة عمل التلفاز إذا شرحتها له."

(1)
بينما كنت أتجول فى قنوات التلفاز منذ بضعة أيام، لفت نظرى وجود أحد الأفلام الأجنبية التى كنت أعشقها فى فترة مراهقتى ولم أرها منذ وقتها. جلست أتابع الفيلم وبعد أقل من خمس دقائق تعجبت تماماً من نفسى أننى كنت أحب هذا الفيلم ذو السيناريو والحوار العقيم. جلست وحيداً بعدها أحاول تحليل أسباب نفورى المفاجىء من هذا الفيلم فوجدت أن السبب الرئيسى هو تركيبات الجمل الحوارية الموجودة بالفيلم والتى أصبحت تبدو ضحلة وقديمة وحمقاء. حاول مشاهدة فيلم عربى من الثلاثينات لتفهم قصدى حيث كان السكريبت وقتها يحتوى على جملاً مثل "حمدى حمدى حمدى حمدى، انا بحبك يا حمدى". هل فهمت ما أتحدث عنه؟ هذا هو ما أقصده مع الفارق أن هذا الفيلم الذى أتحدث عنه ظهر بالفعل فى فترة مراهقتى، وطبقاً لذاكرتى كان هذا الفيلم هاماً ولغته الحوارية كانت مكتوبة بشكل جيد، فماذا حدث؟ كيف أصبحت أرى سكريبت هذا الفيلم ضحلاً بهذا الشكل الغريب؟

(2)
أذكر جيداً مدى إنبهارى بالجرافيكس الرائعة للعبة مثل Fifa 97 على أول جهاز حاسب شخصى حصلت عليه بعد أعوام كنت أقوم فيها بلعب لعبة Soccer العتيقة الخاصة بشركة Konami على جهاز النينتندو، لكنى متأكد أننى لو رأيت Fifa 97 الآن لمُت ضاحكاً من ضعف الجرافيكس الخاصة بها بالمقارنة بالألعاب الموجودة حالياً. كذلك لو قارنت لعبة مبهرة وقتها مثل أولى ألعاب سلسلة Tomb Raider بأحدث نسخ اللعبة الأخيرة الموجودة حالياً لشعرت بالحماقة أنك أعتبرت الرسوميات الخاصة بالنسخة الأولى تلك أنها لن يُنتج ماهو أفضل منها أبداً! ماذا عن سلسلة Resident Evil؟ كان المحرك الرسومى الخاص بهذه اللعبة يعد شيئاً مرعباً وقتها، وكنت تحتاج جهازاً من الفضاء الخارجى لتستطيع لعبها دون أن تصاب بالشلل من بطء الحركة، لكن الآن لو رأيتها لبدت لك فى منتهى السخف. بغض النظر عن كل الكلام المحفوظ عن التطور التكنولوجى، كان هناك عامل آخر يتدخل فى حُكمى على الأمور ويجعلنى أرى الأمور وقتها دائماً أنها فى قمة التعقيد الممكنة، فقط حتى يزداد مستوى التعقيد لاحقاً أكثر وأكثر وأكثر.

(لارا كروفت عام 2013 مع لارا كروفت عام 1996)

(3)
قديماً كانت العلاقات الشخصية بين أى شاب وفتاة يتم توصيفها بكلمات هى: مخطوبين/متزوجين/متصاحبين(بمفرداتها)، أما الآن إزداد مستوى تعقيد توصيف العلاقات إلى Level of Detail يفوق الخيال. لن أتعجب لو أن فتاة حاولت توصيف علاقتها بشاب فى المستقبل القريب بجملة مثل "لأ لأ هى ايز نوت ماى بوى فريند خالص مين اللى قال لك كده؟ هو انا مجنونة أصاحب تانى بعد اللى حصل لى المرة اللى فاتت؟ انا علاقتى به بالظبط هى إننا: زى الإخوات بنسبة 26%، و Best Friends بنسبة 37%، وFriends with Benefits بنسبة 19%، وpart-time lovers بنسبة 18%". مع الفارق أنه وقتها -نظراً لاستحالة توصيف علاقة معقدة كهذه بهذا الوصف الطويل- سيقومون بإختراع كلمة مختصرة لتعبر عن هذا النوع من العلاقات، ويتم ضمها إلى قاموس اللغة الموجود وقتها.

أدركت هذا عندما وجدت نفسى فى موقف كوميدى حيث كنت مطالب بشرح معنى كلمة Friend-zoned لوالد صديقة لى رآنا نردد تلك الكلمة أمامه بالصدفة وسألنا عن معناها، واكتشفت مدى صعوبة توصيف هذه الكلمة البسيطة لشخص من جيل آخر غير جيلنا، وذلك لأن تلك الكلمة البسيطة عندما تم تفتيتها لتناسب مستوى الـsophistication الخاص بهذا الجيل السابق تحوّلت إلى جملة كاملة هى "زى ما كانت واحدة بتقول لواحد أيامكم (ده زى أخويا) يا عمو". مع العلم أن هذا الشخص لو كان من جيل أقدم من ذلك لأضطررت إلى تفتيت كلمة (زى أخويا) التى استخدمتها ذاتها إلى مكوناتها الأولية الأكثر بساطة والتى تناسب مستوى الفهم الأبسط، إلخ...


 (4)
المسألة فى الحالات الثلاث السابقة ليست نضجاً شخصياً فردياً ولكنه نضج للجنس البشرى بشكل عام. الفكرة هنا فى ازدياد وتوحّش الـLevel of Detail فى كل شىء خاص بالوعى البشرى عامة، حيث لم يعد ممكناً توصيف شىء ما بمستوى بسيط من التفاصيل كان يصلح مثلاً منذ عشرين/ثلاثين/أربعين عاماً، ولكن لابد من زيادة عدد النقاط التى ترسم تفاصيل هذا الشىء إلى نفس مستوى التعقيد الذى تعيشه البشرية فى ذات الزمن، وإلا نظروا لهذا الشىء أنه شىء سطحى/بدائى/غير واقعى.

 الأمر يشبه أن ترى لوحة مرسومة بإستخدام ستة ألوان فقط، ثم ترى نفس اللوحة مرسومة بإستخدام 12 لون، ثم بإستخدام 24 لون، ثم ترى نسخة منها تم رسمها بإستخدام بالتة ألوان كاملة تم تخليطها للحصول على مستوى دقة أعلى فى درجات الألوان المستخدمة. إذا رأيت أول نسخة من الصورة سوف تظن أن هذا أفضل شىء يمكن أن تراه عينك، ولكن بعد أن إرتفع مستوى وعيك تدريجياً وأدركت أن هناك دقة ألوان أعلى، وأعلى، وأعلى، ستنظر إلى النسخة الأولى من اللوحة أنها شىء بدائى غير مشبع لنظرك. كذلك الأمر فى التصميمات الثلاثية الأبعاد حيث بزيادة عدد المضلعات المستخدمة فى الرسم تظهر تفاصيل الرسمة الأكثر تعقيداً.




(5)
هنا خطر لى خاطر مرعب: هل يمكن عكس تلك العملية المتصاعدة؟ هل يمكن إبطاء/إيقاف/عكس الوتيرة التصاعدية فى التطوّر؟ هل يمكن لقوة ما إحداث ردة فى الوعى عن طريق عكس الإتجاة ببطء شديد دون أن يلحظ أحد ذلك، وذلك بالرجوع بمستوى التعقيد إلى الخلف؟ هل يمكن ذلك عن طريق التوقف عن ترديد النكات الذكية (بمستواها الحالى) والعودة إلى مرحلة النكات الذكية (بمستواها وقتها) مثل "مرة واحد جه يقعد على قهوة قعد على شاى"؟ هل يمكن ذلك عن طريق العودة بمستوى الدعاية الإعلانية فى التلفاز إلى مرحلة إستخدام ألحان الاغانى العالمية مع كلمات عربية مثلما كان يفعل طارق نور فى دعاية الثمانينات؟

لو افترضنا أن لدينا –الآن- مجموعة من البشر فى بلدة ما تم وضعهم فى Controlled Environment  (فكّر فى كوريا الشمالية)، حيث يشاهد أهلها أفلاماً قديمة لا تحتوى سوى على أنواع العلاقات البسيطة (إما صديق أو حبيب أو عدو إلخ...)، ولا يسمح لأطفالها سوى بلعب النينتندو والسيجا، ولا يشاهدون سوى الدعاية القديمة، ولا يتردد أمامهم فى وسائل الإعلام سوى اللغة البسيطة التى لا تحتوى على الألفاظ المعقدة مثل لفظ Friend-zoned؟ كل ما ستحصل عليه هو هبوط عام فى مستوى التعقيد الفكرى والإدراك البشرى، كأنك قمت ببساطة بإيقاف نمو هؤلاء عند مرحلة واحدة، كأنك وضعت لهم سقفاً لن يتعداه إدراكهم مهما حاولوا تطوير أنفسهم، كأنك قمت بإبطاء عقارب الساعة، بل كأنك قمت بإيقافها.

إذا كان لدينا مجموعة من البشر يشاهدون نفس القنوات الإعلامية التى تقوم ببرمجتهم بشكل يومى، وقمت بتبسيط مستوى اللغة الذى يقدم إليهم من خلال تلك المنابر، وزيادة ضحالة وبساطة المواد المقدمة إليهم، والإكتفاء بعرض الأفلام الكوميدية اللطيفة والإمتناع عن عرض الأفلام المعقدة الرمزية، وسمحت لهم بمواقع إنترنت محددة تقدم محتوى تسالى لطيف، فما الذى ستحصل عليه؟ بالضبط كأنك قمت بعكس دوران عقارب الساعة إلى الخلف لهذه المجموعة، ومع الإستمرار فى هذا الإتجاة وتقليل مستوى تعقيد اللغة بإنتظام ستستطيع بسهولة خلال عشرة سنوات مثلاً العودة بالوعى العام ثمانين عاماً إلى الوراء، حيث ستصبح أنت بالنسبة لهم كائن معقد شديد التطوّر، حينها تستطيع عزيزى الأخ الأكبر أن تحكمهم بمنتهى السهولة والبساطة ودون أدنى مجهود.

اندرو چورچ
28/11/2014