27 يونيو 2017

دراما تالتة رابع

تم نشر هذه التدوينة فى موقع زائد 18 فى 27/06/2017


لم يسعدنى الحظ لمشاهدة مسلسل “لأعلى سعر” هذا العام رغم متابعتى لأعمال الفنانة نيللى كريم لعدة سنوات الآن. ولكن تمكنت من متابعة خط سير أحداث المسلسل من بعيد عن طريق حكايات الأصدقاء والأقارب عن المسلسل. سألت عندما سمعت القصة لأول مرة “وبالطبع قاموا بإظهار الحبيبة الثانية أنها شخصية سيئة للغاية لتسهيل الأمور على أنفسهم؟”، وتمنيت أن تأتى الإجابة بـ”لا” ولكن جاءتني الإجابة للأسف بنعم، فشعرت بخيبة الأمل. لكن زادت خيبة أملى أضعافا مضاعفة عندما شاهدت مشهد ذبح الحبيبة الثانية فى مشهد النهاية بأسلوب “العدالة الشعرية” البدائى فى الدراما، حيث قدمت الشخصية منذ البداية على أنها شخصية شريرة، وفى النهاية يتم ذبحها فى سلاسة، فهى شريرة وتستحق ذلك، وهذا حتى يعود البطل إلى زوجته ويعيشان فى سعادة.

الحقيقة أنه عند اللجوء لهذا المَخرج الدرامى البدائى -بتشوية أحد أطراف العلاقة المثلثة- لم يعد هناك عقدة وصراع وحل مثلما علمونا فى مبادىء البناء القصصى، فالقصة انتهت بالفعل. لقد صورنا الطرف الثالث أنه شرير، إذن فلنفعل بها ما يحلو لنا من قتل أو ذبح، وليشمت فيها المشاهد الخلوق محدود القدرة فى النهاية ويقوم من أمام التلفاز وهو راضٍ قانعًا، فالشريرة قد نالت جزاءها وتحققت العدالة الشعرية الجميلة، ولم يعد متبقٍ سوى أن يخرج لنا صوت الفنان محمد صبحى ليلقى علينا الدروس المستفادة من القصة.

هذه دراما بدائية جديرة بقصص الأطفال؛ حيث يكون الخير والشر واضحين وضوح الشمس، وحيث ينتصر الحق فى النهاية، وحيث “الكارما تعود دائمًا لتعضك فى مؤخرتك” كما يقول الأمريكان، لكن هنا نأسف لإبلاغكم أن الكارما -فى المعتاد- لا تعض مؤخرات الناس بهذا الشكل الساذج.

فقط فى الكتابات البدائية يتم تفريغ الدراما من الصراعات الحقيقية، ثم يقوم المؤلف بحشوها بصراعات وهمية لمدة 30 حلقة. هذه هى دراما الأخ الأكبر المليئة بالمواعظ والدروس المستفادة، التى تنتهى بالمشاهد الساذج إلى الوقوف فى منتصف الفصل ليتلو فى ذكاء وألمعية ما تعلمه من القصة، فيستمع إليه المدرس، ثم يشير له فى رضا ويدعوه للجلوس مرة أخرى فى مكانه.

– يعنى أى حد بيعمل حاجة غلط، الكارما بترجع تعضه فى طـ**ه يا أستاذ، صح؟
– صح يا ولد. أقعد.

لقد انتهت تلك الحقبة الدرامية منذ زمن بعيد، لذا رجاء احترموا عقولنا قليلًا. إن ما تصممون على تقديمه ليس صراعًا دراميًا حقيقيًا بل هو إهانة للعقول، فالصراع الدرامى الحقيقى فى العلاقات ثلاثية الأضلاع يكمن فى كون الأطراف الثلاثة أناسًا عاديين وطيبين. وقتها فقط يحدث الصراع الحقيقى الذى يشعل التفكير: فعندما يقع الزوج الطيب ذو الزوجة الطيبة فى حب امرأة أخرى طيبة، ماذا سيحدث وقتها؟ أين المخرج من هذا المأزق؟

من أكثر الروايات التى قرأتها تحديًا للعقل والروح من هذا النوع كانت رواية The Bridges of Madison County للكاتب روبرت جيمس وولر التى تم نشرها عام 1992، لتتحول فى عام 1995 إلى فيلم من أعظم الأفلام الدرامية من بطولة ميريل ستريب وكلينت إيستوود (والذى قام بالإخراج أيضًا).


القصة تحكى عن فرانشيسكا ربة المنزل التى تعيش فى الريف الأمريكى، والتى يغادر زوجها وأولادها بيتهم إلى المدينة لبضعة أيام ويتركوها وحدها بالمنزل، فتقابل بالصدفة “روبرت”، مصوّر مجلة ناشونال جيوجرافيك الذى كان يزور بلدتها الريفية الصغيرة فى نفس التوقيت لتصوير بعض الجسور القديمة هناك. تتطور القصة ويقع الاثنان فى حب بعضهما البعض خلال بضعة أيام يقضيانها سويًا فى البلدة الصغيرة. وتوضح القصة كيف تلاقت روحيهما سويًا، وكيف وجد كل منهما فى الآخر القطعة الناقصة من روحه.
يتفق الاثنان على الهرب سويًا، ولكن تتراجع فرانشيسكا فى اللحظات الأخيرة بعدما تفكر مليًا فى التبعات المدمرة لقرارها هذا على أولادها الصغار وزوجها الطيب. فى النهاية يرحل المصور وحيدًا، وتعيش فرانشيسكا فى بيتها حتى تشيخ، وتقضى آخر أيامها كامرأة مسنة تقوم برعاية زوجها المريض وأولادها، إلى أن يتزوج أولادها ويسافروا، ثم يتوفى زوجها، ثم تتوفى هى أيضًا فى هدوء، لكنها لم تنس أبدًا تلك الأيام التى تلاقت روحها فيها مع شخص آخر قام برد الألوان ولو لعدة أيام إلى حياتها ذات الأبيض والأسود.

“And in that moment, everything I knew to be true about myself up until then was gone. I was acting like another woman, yet I was more myself than ever before. “
― The Bridges of Madison County

يلاحظ هنا أن القصة لم تقم بالحط من شأن أى من أطرافها، كذلك لم تقم بقتل أحد الأطراف فى ميتة بشعة مثلما حدث على سبيل المثال مع شخصية سعاد حسنى فى فيلم الحب الضائع (1970) بأسلوب “فش غل المشاهد”، بل فى روايتنا الرائعة استمرت الزوجة فى التضحية بنفسها والتفانى فى خدمة زوجها وأولادها حتى النفس الأخير، والزوج أيضًا ظل رب بيت طيبا محبا لها ولأولاده حتى الممات. وحتى الطرف الدخيل -إن جاز التعبير- أبرزت الرواية أنه مجرد شخص صادق عبر فى حياتها وأحبها بالفعل، لكنه احترم قرارها فى النهاية ورحل وعاش باقى حياته وحيدًا حتى مات بعد سنين طويلة.


ناقش نفس الفكرة كذلك فيلم Little Children إنتاج عام 2006، فهذه المرة نرى البطل متزوجًا زواجًا مستقرًا من زوجة جميلة ولديه ابن يحبه، ولكن ينقصه الشغف فى حياته. عندما يقابل البطل الأم المنفصلة (قامت بدورها كيت وينسليت) ينشغلان ببعضهما البعض عن بيوتهم وأولادهم، ويقرران الهرب سويًا، ولكن تتطور الأحداث بشكل ما ليتوقف تنفيذ المخطط ويعود كل منهما لمكانه الأصلى، هكذا دون الحاجة لتشوية أى من الأطراف بغرض الحصول على مخرج سهل من المأزق الدرامى.

“- Oh, that’s nice. So now cheating on your husband makes you a feminist?
– No, no, it’s not the cheating. It’s the hunger. The hunger for an alternative, and the refusal to accept a life of unhappiness. “
Little Children (2006 Film)


على الرغم من أن الكتاب فى المثالين السابقين حاولا إعادة الأمور فى النهاية إلى نصابها الأصلى بعدم تنفيذ خطة الهرب (على عكس ما حدث فى رواية قواعد العشق الأربعون مثلًا)، ولكن مثل هذا النوع من القصص الذى لا يشوه أحد الأطراف، يمثل قمة النضوج الدرامى الذى يخلق صراعًا حقيقيًا داخل القارىء/المشاهد ويثير ذهنه ويجعله يتساءل: أين الصواب وأين الخطا؟ جميعنا يوجد فى محيطه أزواجًا وزوجات يعيشون كالموتى ولا يربطهم ببعضهم البعض سوى المسئوليات، فهل لو كنت مكان البطلة لقمت بالتضحية واستمررت بدفن حياتك مثلها لأجل من تحبهم؟ أم أنك كنت ستنجو بنفسك من تلك الحياة المميتة الجاثمة على روحك؟ هل كان من حقها أن تحب شخصًا آخر رغم أن زوجها رجل طيب يحبها ويرعاها؟ وهل الحب هو إختيار فى الأصل؟ وإن لم يكن إختيارًا، فهل هذا مبرر للخيانة؟ بل يتطور الأمر بالقارىء/المشاهد للتفكير فى تعريف الخيانة نفسه: هل تكون خائنًا لشريكك عندما تجد روحك رفيقها الذى طالما بحثت عنه؟ أم أنك تخون نفسك عندما تختار أن تبقى تعيسًا حتى آخر لحظات عمرك القصير على الأرض؟

تلك أسئلة لا إجابة لها لدي، ولكن يكمن انتصار الدراما/الرواية الحقيقى فى أن يثير تلك العاصفة من الأسئلة فى ذهنك، ثم يتركك وحيدًا حائرًا.

ولكن لماذا نجهد عقول ربات البيوت وأزواجهم -ذوي الكروش- فى التفكير؟ لماذا نضعهم فى مواجهة مباشرة مع صراع حقيقي قد يذهب بسلامهم النفسى وراحة بالهم؟

وجب علينا أن نشكر كتابنا الطيبين الذين يبذلون كل ما فى وسعهم للحفاظ على صحتنا النفسية، فهم لا يريدون استنزافنا فى التفكير فى تلك الأشياء المزعجة، لذا يلجأون إلى المخرج الدرامى المريح للضمائر والذى يجعلنا ننام كالأطفال قريرى الأعين: هذا بالطبع وغد فأكرهه، هذه بالتأكيد عاهرة فلتشمت فى موتها.

المجد للأخلاقيات البلاستيكية والدراما المقولبة الجوفاء المريحة للبال.

“It’s a world of safety out there, for most people. They want safety, the magazines and manufacturers give them safety, give them homogeneity, give them the familiar and comfortable, don’t challenge them. “
― The Bridges of Madison County