13 يناير 2012

الثوابت والماضى والشك - خواطر مفككة ملهاش أى تلاتين لزمة

-الثوابت-

كان فيه حلقة فى مسلسل "لوست" كانت فلسفية جداً -كعادة المسلسل- كان إسمها The Constant، الحلقة كانت بتحكى قصة أحد أبطال المسلسل "ديزموند هيوم"، وهو شخص إكتسب قدرة إنه يسافر عبر الزمن بعقله. والحلقة كانت بتحكى إنه كان قرب يتجنن لأنه كان بيتحرك بين ماضيه وحاضره بشكل جنونى ومكانش فيه أى محطة ثابتة قادر يقف عليها، ماضيه كان مختلف تماماً عن حاضره ومفيش أى حاجة مشتركة بينهم، وكان على وشك إنه يفقد عقله تماماً، لغاية ما إكتشف إن الحاجة الوحيدة اللى هتحافظ على عقله من الجنون هى إنه يلاقى "الثابت"، والثابت ده هو أى حاجة كانت موجوده فى ماضيه وإستمر وجودها فى حاضره، حاجة زى مرساة المركب كده بتثبته فى الوجود وتحقق له الإستقرار العقلى.
http://lostpedia.wikia.com/wiki/The_Constant

كنت مرة زمان كتبت مقال بالإنجليزى إسمة "البحث عن الثابت"، كنت بتكلم فيه على إن إزاى الشخص بيحاول خلال حياته يوجد حاجات ثابته حواليه، دعائم ضرورية للإستقرار النفسى للإنسان تحسسه إنه مثبت فى الأرض رغم كل التغييرات اللى بتحصل حواليه وبتحصل له هو شخصياً، وقد تكون الثوابت دى عقيدنه الدينية، أو أهله اللى مهما الدنيا إتغيرت هما مش بيتغيروا (إلا فى حال وفاتهم)، أو أحباب ورفاق حياة (رغم إنهم عرضه فى أى وقت للإنسحاب من حياة الشخص)، أو أماكن معينة كان بيزورها الشخص فى طفولته ومتغيرتش من ساعتها، أى حاجة زى
Reference Points
لما يلاقى نفسه تاه يرجع يبص عليها فيحس بالإطمئنان والثبات نوعاً ما.


-الماضى-
إعتزازنا بذكريات الماضى أحياناً بياخد منحنى مبالغ فيه زى ما بيحصل معايا ومع كتير من أبناء جيلى اللى الحاضر بيجرى حواليهم بسرعة الصاروخ، لأن الماضى هو الحاجة الوحيدة اللى فى حياتنا مش هتتغير أبداً، عشان كده بيجيلى حالة قرف فظيعة كل ما أحس إن حاجة من ثوابت الماضى بتاعتى بيتم تغييرها ولو للأفضل.

على سبيل المثال انا فاكر كويس إنى كنت متضايق جداً لما كنيسة الأنبا تكلا تم إعادة بناؤها لأنها كانت آيلة للسقوط تماماً، كل الناس كانت فرحانة لما شافوا الكنيسة الجديدة مكانها بس انا كنت متضايق جداً، أى نعم فيه كنيسة إتبنت بمعجزة ما بدل اللى كانت هتنزل على دماغ الناس اللى فيها، بس مش هى دى الكنيسة اللى كنت أعرفها من أيام وانا عندى 3 سنين، دى واحدة غيرها! مش هو ده المكان الثابت اللى كنت بروح أترمى فيه لما كنت بحس كل حاجة حواليا بتجرى وبتتغير بشكل جنونى، حتى الحاجة الثابتة بتاعتى غيرتوها؟ حتى الـ Panic Room اللى كنت بستخبى فيها وقت الخطر إختفت؟

ودلوقتى البيت اللى إتربيت فيه هيتهدّ ويطلع عمارة، واحد صاحبى لقانى متضايق جداً قال لى "يابنى مانت فى الآخر هيبقى عندك بيت كبير وشيك زعلان لية؟"، رديت عليه ببساطة "بس مش هيبقى هو !". والدتى بتسألنى مع كل ورقة قديمة مهترئة أتمسك بيها زى المجانين وأصمم إنها تتحط فى الكراتين اللى هننقلها معانا "يابنى إنت هتحتفظ بكل ده ليه؟"، أرد عليها وأقول لها "دى الحاجات الوحيدة اللى باقية لى"، تبصلى فى إستغراب ومتفهمش ردى العجيب ده !


-الشك-
أحد أهم أنواع الثوابت هى الثوابت اللى بتكون جوه الشخص، أفكاره المزروعة جواه، اللى هى أعمق ما يؤمن به الشخص. محدش يقدر ينكر إننا مهما إدعينا إن شخصياتنا إتغيرت تغيّر جذرى خلال مراحل حياتنا دايماً هتلاقى حاجات معينة جوانا مبتتغيرش ومحفوظة جوانا فى صندوق مغلق من أجل الحفاظ على إستقرارنا العقلى، والعبث بمكوّنات الصندوق ده عواقبه عمرها ما بتكون مأمونه أبداً.

خلال الكام يوم اللى فاتوا كنت مش عارف أوصل للإنترنت بشكل منتظم ومكنتش متابع الأخبار نهائياً، وقتها كنت مرتاح نفسياً بشكل معداش عليا من فترة طويلة! مفيش أخبار تحرق الدم، مفيش تعليقات متخلفة من شوية بهايم مش فاهمين حاجة أصلاً المفروض إنك متشتمهمش شتايم قبيحة لأنك مرتبط بفكرة "إحترام الرأى الآخر"، مفيش تصريحات من مسئولين تجيبلك شلل رباعى...
وفجأة رجعلى النت ولقيت نفسى جالى نفس إرتفاع ضغط الدم بتاع زمان.

ساعتها بس فهمت ليه الناس اللى مغمّية عينها وقافله دماغها على حاجة بتستميت فى الهجوم على كل من يحاول زعزعة إستقرار دماغهم، مين يضحى براحة البال الفظيعة دى ويروح عالم تشغيل الدماغ والتفكير اللانهائى اللى بيضيّع سلام الواحد الداخلى تماماً؟ مين بالذمة يضحى براحة البال والهدوء الناجمين عن تثبيتهم لأنفسهم بجذور ثابته فى الأرض، ويسمحولك إنك تقطع الجذور دى وتسيبهم فى مهب الريح؟ عشان كده بقى الناس المغيّبة بتستميت فى الهجوم على أى حد بيحاول يصحيها من الغيبوبة (أياً كان نوع الغيبوبة)، 

أبسط مثال للموضوع ده شفناه كلنا خلال الثورة، هو مثال أتباع حزب الكنبة، الناس دى قفلت دماغها على إن الرئيس الأب هو محمد حسنى مبارك، وإننا واكلين شاربين الحمد لله، الناس دى ثبتت نفسها فى الأرض بجذور الفكرة دى، وأى زعزعة للفكرة دى هيزعزع إستقرارهم النفسى، لو جيت سعادتك فرجت حد منهم على فيديو تعذيب مواطن فى أقسام الشرطة عشان تفتح عينيه على الواقع، توقع من الراجل ده أبشع ردود الفعل (حسب تماسك قواه العقلية)، لأنك هنا بتحاول زعزعة إستقراره النفسى وبتهدم ثوابته "مبارك الأب-بناكل وبنشرب-الحمد لله" اللى هو مثبت نفسه بيها فى الأرض، كأنك ماسك فاس ونازل ضرب فى العمود اللى محافظ على إستقراره النفسى، وبتهدم الدنيا على دماغ اللى خلفوه!

إحنا نفسنا حصل لنا كده مع كل صدمة مرت بينا فى حياتنا، انا فاكر من سنين أيام ما بدأت عينى تتفتح وبدأت أشوف الفيديوهات دى كان بيجيلى حالات إكتئاب وخوف بالأيام، وأيام اللى حصل لخالد سعيد كانت حالتى النفسية متدمرة، بينما الكنباوى الأصيل كان بينام قرير العين وهو مقتنع تماماً إن "الشرطة فى خدمة الشعب" وإن "خالد سعيد ده عيل صايع بلع لفافة بانجو"، ماهو لو مكانش بلع لفافة بانجو يبقى الشرطة هى اللى قتلته، ولو الشرطة اللى قتلته يبقى منظومة السلامة النفسية اللى عند صاحبنا ده هتتنسف تماماً وإستقراره النفسى هيروح فى ستين داهية، وبالتالى لازم يوجد لنفسه أى تبريرات تحافظ على إستقراره النفسى، العقل الباطن بيلعب ألعاب قذرة كتير عشان يأمن نفسه ويحافظ على الإستقرار النفسى للشخص اللى هو موجود بداخله.


-خاتمة-
اية اللى المفروض تقفل عليه وتعتبره ثوابت؟؟

الموضوع نسبى تماماً، ما بين شخص بيحط كل حاجة تخصه تقريباً فى الصندوق المغلق بهدف الحفاظ على نفسه، وده شخص بتلاقيه متعصب جداً لكل حاجة هو مقتنع بيها وصعب إنك تحاول تناقشه أصلاً فى أى حاجة لأنه بيبقى خواف جداً، ومرعوب على كل حاجة هو حاططها فى صندوقه، وممكن ياكلك لو حاولت تزعزع قناعته بأى حاجة حتى لو كانت بخصوص فوايد شرب اللبن اللى إتضح مؤخراً إن شرب كميات مبالغ فيها منه بيتسبب فى كوارث صحية متعددة!

وعلى الطرف التانى من الطيف هنلاقى الشخص اللى بيخضع كل حاجة للشك والتفكير والقياس، وده شخص عمره ما بيرتاح أبداً، كل شىء عنده محل شك، حتى إيمانه وحتى وجوده نفسه، ودول مع الوقت بيفقدوا عقلهم تماماً وبيتكتب عنهم فى التاريخ إنهم "فلاسفة" !

فى الوسط بقى بتلاقى الشخص اللى بيقفل على الحاجات الخطيرة فقط، زى عقيدته الدينية مثلاً وبس، وبيخضع كل حاجة تانية للشك، لكن المشكلة إن الوسط ده عامل زى الزئبق صعب تمسكه، وتلاقى نفسك بتحاول توسطن نفسك عنده دايماً بس غصب عنك بتجنح لليمين أو لليسار خلال فترات حياتك، يا بتحمى حاجات بزيادة فى الحقيقة ملهاش أى قيمة، يا إما بتفرط فى حاجات شديدة الأهمية التفريط فيها خطر جداً.

الثوابت ضرورية للحفاظ على إستقرارك النفسى،
لكن...
كل شىء حولك يتغير،
لذلك...
تحاول التمسك بالماضى بداخلك كنوع من الثوابت،
حتى...
يتسلل الشك إليك ويغيّر ما بداخلك،
وكلما...
توغّل الشك بداخلك أكثر وتغلغل إلى كل ما تؤمن به،
يؤدى بك إلى...
المزيد من التفكك،
ويدفعك دفعاً إلى ...
التمسك بالماضى أكثر،
كنوع من...
الثوابت الضرورية للحفاظ على إستقرارك النفسى،
وهكذا...

ما قلنا خواطر ملهاش أى تلاتين لزمة !

أندرو جورج
13-01-2012