28 نوفمبر 2014

فى التقدم والإرتداد


"لا يمكنك أن تحضر إنسان الكهف وتشرح له كيف يعمل التلفاز مباشرةً، فقبلها سوف تحتاج أن تشرح له معنى الحضارة، والكهرباء، والموجات، إلخ... حتى تصل به إلى مستوى التطور المطلوب الذى يستطيع عنده أن يفهم فكرة عمل التلفاز إذا شرحتها له."

(1)
بينما كنت أتجول فى قنوات التلفاز منذ بضعة أيام، لفت نظرى وجود أحد الأفلام الأجنبية التى كنت أعشقها فى فترة مراهقتى ولم أرها منذ وقتها. جلست أتابع الفيلم وبعد أقل من خمس دقائق تعجبت تماماً من نفسى أننى كنت أحب هذا الفيلم ذو السيناريو والحوار العقيم. جلست وحيداً بعدها أحاول تحليل أسباب نفورى المفاجىء من هذا الفيلم فوجدت أن السبب الرئيسى هو تركيبات الجمل الحوارية الموجودة بالفيلم والتى أصبحت تبدو ضحلة وقديمة وحمقاء. حاول مشاهدة فيلم عربى من الثلاثينات لتفهم قصدى حيث كان السكريبت وقتها يحتوى على جملاً مثل "حمدى حمدى حمدى حمدى، انا بحبك يا حمدى". هل فهمت ما أتحدث عنه؟ هذا هو ما أقصده مع الفارق أن هذا الفيلم الذى أتحدث عنه ظهر بالفعل فى فترة مراهقتى، وطبقاً لذاكرتى كان هذا الفيلم هاماً ولغته الحوارية كانت مكتوبة بشكل جيد، فماذا حدث؟ كيف أصبحت أرى سكريبت هذا الفيلم ضحلاً بهذا الشكل الغريب؟

(2)
أذكر جيداً مدى إنبهارى بالجرافيكس الرائعة للعبة مثل Fifa 97 على أول جهاز حاسب شخصى حصلت عليه بعد أعوام كنت أقوم فيها بلعب لعبة Soccer العتيقة الخاصة بشركة Konami على جهاز النينتندو، لكنى متأكد أننى لو رأيت Fifa 97 الآن لمُت ضاحكاً من ضعف الجرافيكس الخاصة بها بالمقارنة بالألعاب الموجودة حالياً. كذلك لو قارنت لعبة مبهرة وقتها مثل أولى ألعاب سلسلة Tomb Raider بأحدث نسخ اللعبة الأخيرة الموجودة حالياً لشعرت بالحماقة أنك أعتبرت الرسوميات الخاصة بالنسخة الأولى تلك أنها لن يُنتج ماهو أفضل منها أبداً! ماذا عن سلسلة Resident Evil؟ كان المحرك الرسومى الخاص بهذه اللعبة يعد شيئاً مرعباً وقتها، وكنت تحتاج جهازاً من الفضاء الخارجى لتستطيع لعبها دون أن تصاب بالشلل من بطء الحركة، لكن الآن لو رأيتها لبدت لك فى منتهى السخف. بغض النظر عن كل الكلام المحفوظ عن التطور التكنولوجى، كان هناك عامل آخر يتدخل فى حُكمى على الأمور ويجعلنى أرى الأمور وقتها دائماً أنها فى قمة التعقيد الممكنة، فقط حتى يزداد مستوى التعقيد لاحقاً أكثر وأكثر وأكثر.

(لارا كروفت عام 2013 مع لارا كروفت عام 1996)

(3)
قديماً كانت العلاقات الشخصية بين أى شاب وفتاة يتم توصيفها بكلمات هى: مخطوبين/متزوجين/متصاحبين(بمفرداتها)، أما الآن إزداد مستوى تعقيد توصيف العلاقات إلى Level of Detail يفوق الخيال. لن أتعجب لو أن فتاة حاولت توصيف علاقتها بشاب فى المستقبل القريب بجملة مثل "لأ لأ هى ايز نوت ماى بوى فريند خالص مين اللى قال لك كده؟ هو انا مجنونة أصاحب تانى بعد اللى حصل لى المرة اللى فاتت؟ انا علاقتى به بالظبط هى إننا: زى الإخوات بنسبة 26%، و Best Friends بنسبة 37%، وFriends with Benefits بنسبة 19%، وpart-time lovers بنسبة 18%". مع الفارق أنه وقتها -نظراً لاستحالة توصيف علاقة معقدة كهذه بهذا الوصف الطويل- سيقومون بإختراع كلمة مختصرة لتعبر عن هذا النوع من العلاقات، ويتم ضمها إلى قاموس اللغة الموجود وقتها.

أدركت هذا عندما وجدت نفسى فى موقف كوميدى حيث كنت مطالب بشرح معنى كلمة Friend-zoned لوالد صديقة لى رآنا نردد تلك الكلمة أمامه بالصدفة وسألنا عن معناها، واكتشفت مدى صعوبة توصيف هذه الكلمة البسيطة لشخص من جيل آخر غير جيلنا، وذلك لأن تلك الكلمة البسيطة عندما تم تفتيتها لتناسب مستوى الـsophistication الخاص بهذا الجيل السابق تحوّلت إلى جملة كاملة هى "زى ما كانت واحدة بتقول لواحد أيامكم (ده زى أخويا) يا عمو". مع العلم أن هذا الشخص لو كان من جيل أقدم من ذلك لأضطررت إلى تفتيت كلمة (زى أخويا) التى استخدمتها ذاتها إلى مكوناتها الأولية الأكثر بساطة والتى تناسب مستوى الفهم الأبسط، إلخ...


 (4)
المسألة فى الحالات الثلاث السابقة ليست نضجاً شخصياً فردياً ولكنه نضج للجنس البشرى بشكل عام. الفكرة هنا فى ازدياد وتوحّش الـLevel of Detail فى كل شىء خاص بالوعى البشرى عامة، حيث لم يعد ممكناً توصيف شىء ما بمستوى بسيط من التفاصيل كان يصلح مثلاً منذ عشرين/ثلاثين/أربعين عاماً، ولكن لابد من زيادة عدد النقاط التى ترسم تفاصيل هذا الشىء إلى نفس مستوى التعقيد الذى تعيشه البشرية فى ذات الزمن، وإلا نظروا لهذا الشىء أنه شىء سطحى/بدائى/غير واقعى.

 الأمر يشبه أن ترى لوحة مرسومة بإستخدام ستة ألوان فقط، ثم ترى نفس اللوحة مرسومة بإستخدام 12 لون، ثم بإستخدام 24 لون، ثم ترى نسخة منها تم رسمها بإستخدام بالتة ألوان كاملة تم تخليطها للحصول على مستوى دقة أعلى فى درجات الألوان المستخدمة. إذا رأيت أول نسخة من الصورة سوف تظن أن هذا أفضل شىء يمكن أن تراه عينك، ولكن بعد أن إرتفع مستوى وعيك تدريجياً وأدركت أن هناك دقة ألوان أعلى، وأعلى، وأعلى، ستنظر إلى النسخة الأولى من اللوحة أنها شىء بدائى غير مشبع لنظرك. كذلك الأمر فى التصميمات الثلاثية الأبعاد حيث بزيادة عدد المضلعات المستخدمة فى الرسم تظهر تفاصيل الرسمة الأكثر تعقيداً.




(5)
هنا خطر لى خاطر مرعب: هل يمكن عكس تلك العملية المتصاعدة؟ هل يمكن إبطاء/إيقاف/عكس الوتيرة التصاعدية فى التطوّر؟ هل يمكن لقوة ما إحداث ردة فى الوعى عن طريق عكس الإتجاة ببطء شديد دون أن يلحظ أحد ذلك، وذلك بالرجوع بمستوى التعقيد إلى الخلف؟ هل يمكن ذلك عن طريق التوقف عن ترديد النكات الذكية (بمستواها الحالى) والعودة إلى مرحلة النكات الذكية (بمستواها وقتها) مثل "مرة واحد جه يقعد على قهوة قعد على شاى"؟ هل يمكن ذلك عن طريق العودة بمستوى الدعاية الإعلانية فى التلفاز إلى مرحلة إستخدام ألحان الاغانى العالمية مع كلمات عربية مثلما كان يفعل طارق نور فى دعاية الثمانينات؟

لو افترضنا أن لدينا –الآن- مجموعة من البشر فى بلدة ما تم وضعهم فى Controlled Environment  (فكّر فى كوريا الشمالية)، حيث يشاهد أهلها أفلاماً قديمة لا تحتوى سوى على أنواع العلاقات البسيطة (إما صديق أو حبيب أو عدو إلخ...)، ولا يسمح لأطفالها سوى بلعب النينتندو والسيجا، ولا يشاهدون سوى الدعاية القديمة، ولا يتردد أمامهم فى وسائل الإعلام سوى اللغة البسيطة التى لا تحتوى على الألفاظ المعقدة مثل لفظ Friend-zoned؟ كل ما ستحصل عليه هو هبوط عام فى مستوى التعقيد الفكرى والإدراك البشرى، كأنك قمت ببساطة بإيقاف نمو هؤلاء عند مرحلة واحدة، كأنك وضعت لهم سقفاً لن يتعداه إدراكهم مهما حاولوا تطوير أنفسهم، كأنك قمت بإبطاء عقارب الساعة، بل كأنك قمت بإيقافها.

إذا كان لدينا مجموعة من البشر يشاهدون نفس القنوات الإعلامية التى تقوم ببرمجتهم بشكل يومى، وقمت بتبسيط مستوى اللغة الذى يقدم إليهم من خلال تلك المنابر، وزيادة ضحالة وبساطة المواد المقدمة إليهم، والإكتفاء بعرض الأفلام الكوميدية اللطيفة والإمتناع عن عرض الأفلام المعقدة الرمزية، وسمحت لهم بمواقع إنترنت محددة تقدم محتوى تسالى لطيف، فما الذى ستحصل عليه؟ بالضبط كأنك قمت بعكس دوران عقارب الساعة إلى الخلف لهذه المجموعة، ومع الإستمرار فى هذا الإتجاة وتقليل مستوى تعقيد اللغة بإنتظام ستستطيع بسهولة خلال عشرة سنوات مثلاً العودة بالوعى العام ثمانين عاماً إلى الوراء، حيث ستصبح أنت بالنسبة لهم كائن معقد شديد التطوّر، حينها تستطيع عزيزى الأخ الأكبر أن تحكمهم بمنتهى السهولة والبساطة ودون أدنى مجهود.

اندرو چورچ
28/11/2014

25 سبتمبر 2014

المدينة (قصة قصيرة)

شىء مؤسف حقأ أنهم أحرقوا مدينتك بالكامل أيها الملك العظيم...

سامحنى ولا تغضب من كلامى أرجوك، لكن انت من أخطأ حين خفضت دفاعاتك أمام من أقنعوك أنهم يمكن إئتمانهم على دخول مدينتك الحصينة. لحظة أنزلت فيها دفاعات القلعة كانت هى كل ما يحتاجونه لسرقة كنوزك وحرق المدينة بالكامل. المدينة التى قضيت حياتك فى بنائها وأفنيت فى كل ركن منها جزءاً من روحك.

أخبرنى ماذا تبقى لك بعد أن قاموا بفعلتهم النكراء هذه؟ لقد خسرت كل ما تملكه، وأصبحت تستحق لقب "ملك الأرض المحترقة" عن جدارة. بعدها صار عليك أن تحاول بناء أى شىء تستطيع بناؤه حتى تتمكن من العثور على مأوى لك على الأقل. ولكنهم قاموا بسرقة معظم كنوزك ومواردك التى كنت تستطيع إستخدامها فى إعادة الإعمار. كل ما تبقى لديك مما نسوا سرقته استخدمته فى إعادة بناء كوخ صغير على أطراف المدينة المحترقة لتعيش به وحيداً، وفى تثبيت جميع الدفاعات التى عرفتها -أو لم تعرفها- الشعوب الأخرى كى لا يقترب أحداً من هذا المكان مرة أخرى.

سيرى الجميع دفاعات المدينة الحصينة من الخارج وسيظنون أنك نجحت فى إعادة بنائها وأنها أصبحت تحوى الجنة من الداخل، ولكن لن يعلم أحداً أن كل تلك الأسوار لا تحمى بداخلها سوى أرضاً دُمِّرَت معظم نواحيها بغير رجعة، وكوخاً حقيراً يعيش به ملك عجوز أصابه مس من الجنون. لكن، لا يمكن أن يعلم أحد ذلك على الإطلاق. فهذا سرّك أيها الملك. لا تقلق فأنا لن أخبر أحداً.

لكنك أخطأت حين وثقت بى.

لماذا تنظر لى فى فزع؟ ألم أقل لك أنك أحمق؟ لقد كررت خطأك مرة أخرى وأدخلت الغرباء إلى مدينتك. أنت لا تتعلم من أخطائك أبداً، وأمثالك من الأغبياء لا يستحقون سوى قضاء عمرهم فى عذاب مستمر. لقد قمت بسرقة كل ما أستطعت سرقته من هذا المكان القذر أثناء إنشغالك بتحضير مكان لى للمبيت. هل صدّقت حقاً أننى بعد أسفارى الكثيرة سأبقى معك فى هذا المكان لإعادة أعمار مدينتك؟ يالك من عجوز معتوة!

والآن فليحترق مخبأك مرة أخرى. وأرجو حقاً إذا نجوت فى هذه المرة أن تحاول بناء مكان آخر لإيوائك، حتى يأتى غيرى ليسرق أى مما تبقى ولم أستطع انا سرقته فى تلك المرة. أنت تعلم مثلى أن أمثالك لا يتعلمون أبداً، أليس كذلك؟

وداعاً أيها الملك الأحمق، وداعاً.

اندرو جورج
20/09/2014

29 يوليو 2014

كُن وحدك!



(۱)
إنتشى فى سعادة وحدك...جُب العالم واستمتع بكل لذّاته وحدك...توحّد مع الكون فقط...لا تعتمد على شخص آخر لتكن سعيداً...استمتع وحدك...كُن وحدك...كُن وحدك...أنت محور الكون وجميعهم #مايستهلوشي !


(۲)
- التيار العام بقى غريب، فيه قوة مش فاهمها بتضغط جامد فى إتجاة إن كل واحد يبقى عايش مع حاله كده وخلاص.
- إشمعنى؟
- مش عارف...فاكر الصور المشهورة بتاعة الإتنين اللى بيجروا مع بضع فى المطرة ومبسوطين؟
- آه...
- الصور دى دلوقتى بتختفى بالتدريج، وبيحلّ محلها صور لواحد بيجرى لوحده فى المطرة وهو لابس بدلة وبيرقص فى سعادة، أو واحدة بتجرى لوحدها فى المطرة وهى لابسة فستان وبترقص فى نشوة كده.
- إحم...
(محادثة قديمة)


(۳) عن ميكانيزمات وأنواع حياة التوحّد
يحلل أطباء علم نفس الأطفال حب الأطفال للجلوس تحت المائدة بأن ذلك يشعرهم بالأمان، لأن العالم حينها يكون محدوداً (له سقف منخفض) وآمن، ويختفى منه الخوف البشرى من الكون الواسع الغامض (من وجهة نظر الطفل)، تماماً مثلما كان الإنسان القديم يختبىء داخل الكهف ليقضى ليلته آمناً من الكائنات الليلية الشيطانية التى يصورها له عقله. ولكن الطفل/الإنسان القديم رغم ذلك كان دائماً ما يمتلك كذلك الرغبة الدفينة فى الإستكشاف، والتى كانت فى صراع دائم مع رغبته الأولى فى الإختباء والشعور بالأمان، لذلك فقد كان دائماً يخرج من مخبأه من حين لآخر متسللاً، ليلقى نظره إلى العالم الخارجى ويكتشفه.

والآن أى رغبة فيهما هى الأقوى عندك؟ إذا كنت ترغب أكثر فى الإختباء، فسنصل إليك ونُذكى النزعة الفردية عندك أثناء إختبائك. أما إذا كنت ترغب أكثر فى الخروج وإكتشاف العالم، أيضاً سنصل إليك ونُذكى النزعة الفردية عندك أثناء إكتشافك للعالم...فلدينا من النزعة الفردية ما يناسب جميع الأذواق!

فلنبدأ...

(۳ - أ) النوع الأول: إختبىء وشاهد العالم من خلف شاشتك...وحيداً.
 بشكل ما يتم العمل بإنتظام على تحويل كل فرد إلى جزيرة منعزلة عقلياً تماماً، لا أعلم إن كان هذا عمداً أم بمحض المصادفة، وذلك بأدوات يدّعون أنها صُممت للغرض المعاكس مثل شبكات "التواصل الإجتماعى"، الهواتف المحمولة، إلخ...، فكل ما ساهمت فيه هذه الأدوات هو أنها جعلتك تصمم عالماً يحيط بك يتوافق مع ما تريده فقط تحت مسمى الـPersonalization، لن ترى سوى الأشياء التى تحب أن تراها، لن تسمع أو تقرأ سوى الآراء التى تحب أن تسمعها وتقرأها، لن تشاهد سوى الإعلانات التى تهتم بها، إلخ...حتى أنك لن تصل سوى إلى الشخص الذى تريد الوصول إليه لقضاء غرض ما سريعاً. لا أذكر آخر مرة قمت فيها بالسؤال عن صحة والد أو والدة أحد أصدقائى لأنهم من قاموا بالرد علىّ فى الهاتف بالصدفة، فلقد توقفت عن إستخدام الهاتف الأرضى منذ فترة طويلة.

 ألم نكد نجنّ من تصريحات بعض التيارات خلال السنوات الماضية التى كانت تبدو لنا كأنها صادرة من أناس لا يعيشون فى عالمنا؟ هم بالفعل لم يكونوا يعيشون فى عالمنا، ولا نحن كنا فى عالمهم، فكل منا خلق عالم خاص به وإنعزل بداخله تماماً ولا يدرك سوى مفرداته وأحداثه، ولا يعلم أى شىء عن ما هو خارج هذا العالم الذى يعيش به. هذا هو حالنا جميعاً فى تلك الأيام.

هناك كذلك من تطرّف أكثر وأكثر، فظهرت ألعاب مثل Second Life حيث تقوم بخلق الشخصية التى تريدها والتحرك بها فى عالم ثلاثى الأبعاد تقوم فيه بممارسة كل ما يمكن/لا يمكن لك أن تمارسه فى أرض الواقع. ولكن على أى حال هذا مثال متطرّف لا داعى للإسهاب فى الكلام عنه. يكفينا ما نعيشه من واقع مشوّه منعزل.

إن الأفلام من نوعية The Matrix لم تعد بعيده كثيراً عن ما نعيشه بالفعل ولو بشكل مجازى.


(۳ - ب) النوع الثانى: أخرج وأستمتع بالعالم بنفسك...وحيداً.
 وهذا النوع قد يبدو فى ظاهره عكس النوع السابق، ولكنه فى نهاية الأمر يدعو لنفس الفكر الإنعزالى. هو مجرد نكهة أخرى لنفس الوجبة المسمومة، فقط وُضِعت عليها الكثير من البهارات من نوع "ضرورة الخروج والبحث عن الذات" و "مُتع الحياة التى يجب أن تجوب العالم وتحصل عليها". دعنى أوضّح...

بدأ إتجاه إذكاء النزعة الفردية من النوع الثانى يظهر بقوة فى ألوان الأدب الناجح فى تلك الأيام التى نعيشها، فلو فتّشنا عن الـBest Sellers التى تظهر فى أيامنا هذه سنجد أنها جميعاً من عيّنة "الروايات التنويرية" إن جاز لنا أن نسميها بهذا الإسم. فها هى كتابات باولو كويلو تحتل الأسواق وتقوم بتوصيل فكر الفردية والتوحّد بشكل مكثف غير مسبوق. لا أدعى أننى قرأت جميع رواياته ولكن الخط العام ظهر أمامى وهو فكرة "البحث عن الذات" التى تحدثنا عنها فى بداية الفقرة. عن ثم يظهر لنا مثال آخر وهو رواية مثل قواعد العشق الأربعون للكاتبة التركية إليف شافاق عن الرحالة الصوفى ورحلاته لإكتشاف العالم والله، وعن ربة البيت الأمريكية التى تقرر ترك بيتها وزوجها وأولادها لأنها أكتشفت فجأة أنها ربما لم تكن سعيدة حقاً خلال حياتها مع زوجها وأولادها(!). قس على هذا الكثير والكثير من الروايات التى تدفع بأسلوب غامض فى هذا الإتجاة المريب: "أنت والكون فقط"، مع تفنن الأدباء بشتى الطرق فى الدفع فى هذا الطريق وتبرير كافة مواقف أبطالهم شديدة الأنانية بفكرة الصوفية و"إكتشاف الذات".

لقد كبرنا ونضجنا بما يكفى لكى نعلم أن المشاعر جميعها تتغير ولا تبقى على حالها أبداً إلا فيم ندر، ولكن كل ما هناك هو أن الناس قديماً كانوا لديهم من الإلتزام والوفاء ما يكفى أن يبقوا مع شركاء حياتهم وأولادهم رغم كل الصعاب، ورغم الشعور بالرغبة الأنانية فى الجنوح والتحليق بعيداً. انا شخصياً لا أريد عند الوصول إلى عامى الأربعين أن أترك زوجتى وأولادى وعملى بحجة أننى ذاهب لـ"البحث عن ذاتى" فى مكان ما، فهذا بالنسبة لى –بشخصى الحالى- لا يعدّ سوى أعتى دروب الخسّة والأنانية، لكن الخط العام فى أدب تلك الأيام يدفع دفعاً فى إتجاه مفاده هو "وفيها ايه؟ المهم انت تكون مبسوط"!

لاحظ كذلك أن هناك جانب روحانى خطير لفكر التوحّد من النوع الثانى هذا، فقد لقى هذا اللون من الكتابة رواجا بين شعوب العالم فى تلك الأيام لأنه جمع بين ميزتين؛ ميزة الإيمان البسيط اللطيف بوجود كيان إلهى أو upper being كما يقولون يعتنى بك أثناء رحلتك "المجردة" للبحث عن الحقيقية إلخ...، وفى نفس الوقت ميزة عدم إضطرارك إلى الدخول فى قيود أحد الأديان التى تطالبك بإستمرار بأصوام وعبادات وإلتزامات محددة، صار كل ما عليك بإختصار أن تسير فى الأرض تدعو إلى الفرح والسلام الداخلى والثقة بالـ"كيان الأعظم" دون أى إرتباطات أو أشياء منتظره منك. وانا هنا لست ضد هذا اللون المجرد البسيط من الإيمان، بل بالعكس أحيانا يخيل لى أنه قد يكون أصدقهم، ولكن هذا فقط عندما يكون حقيقيا، لا عندما يكون آداة مريبة تًستخدم لخدمة غرض آخر.

بالمناسبة تذكرت فجأة الفيلم الكوميدى Holy Man (من بطولة إيدى ميرفى) وتسائلت كيف سيكون شكل العالم لو تحولنا أهل الأرض جميعا إلى مجموعة من الـHoly Men نفيض بالروحانيات المزعومة ونرتدى الجلابيب البيضاء الفضفاضة ونتبختر فى الأرض فرحين راسمين على وجوهنا الإبتسامات الهادئة البلهاء؟! يالها من صورة عجيبة للعالم!


(٤) أكسسوارات التوحّد
ويبدو أن هناك إرتباطاً ما بين حياة التوحّد والإرتداد إلى الماضى لكنى لم أتمكن من فهمه بشكل كامل. فكما أن هناك إرتباط بين النوع الثانى من التوحّد وبين الفكر الصوفى القديم، كان لابد كذلك أن تظهر الأفكار القديمة المصاحبة لذلك بشكل موازى. فجأة أصبح الجميع يبحثون عن السلام الداخلى فى ممارسة اليوجا، عن الطاقة فى الفنج-شوى، عن علاج الأمراض فى الكيروثيرابى والإبر الصينية، وعن المتعة الجنسية فى الكاما سوترا!

على مستوى العالم وعلى مدار العام الآن تُصرف ملايين الدولارات على صناعة الـ"نيو آيدچ" هذه بعد أن توقف عقلنا عن تخيّل أنه سيكون هناك ما هو جديد، فبدأنا ننبش فى قبور الماضى بحثاً عن "المعارف والأسرار القديمة التى خفيت عنا طوال تلك السنين".

إذن الارتداد كإتجاة عالمى حادث إلى الداخل، وإلى الخلف.


(٥)
تخيلت نفسى أحد المؤمنين بمؤامرات الماسونية للحظة وحاولت تحليل أسباب ونتائج ملاحظاتى تلك من داخل رأس أحدهم:
"أممم، حسناً، فلنقل أن هناك كائنات فضائية تقوم ببث فكرة التوحّد هذه عن بُعد، وذلك للقضاء على الجنس البشرى بشكل ناعم خلال بضعة مئات من الأعوام، حتى عندما يصلوا إلى كوكبنا بالسلامة يكون الكوكب جاهزاً لإستقبالهم".
بدت لى الفكرة مجنونة تماماً حتى بالنسبة لأفلام الخيال العلمى الخاصة بنظرية المؤامرة، وقررت ألا أطلق لخيالى العنان مرة أخرى.


(٦)
أذا كان لك أقارب تحت سن العشر سنوات، قم برصد تصرفاتهم وطريقة تفاعلهم مع العالم المحيط بهم خلال الفترة القادمة. لن أتحدث كثيراً فى هذه النقطة وسأترك الأمر لملاحظتك.


(1 تانى)
إنتشى فى سعادة وحدك...جُب العالم واستمتع بكل لذّاته وحدك...توحّد مع الكون فقط...لا تعتمد على شخص آخر لتكن سعيداً...استمتع وحدك...كُن وحدك...كُن وحدك...أنت محور الكون وجميعهم #مايستهلوشي !

اندرو چورچ
29/07/2014

17 فبراير 2014

إنتكاسة (قصة قصيرة جداً)

(غرفة يجلس بها شاب بمفرده ينظر إلى هاتفه الجوال الموضوع على المكتب ويتردد فى الإمساك به)

"أكونش إتسرعت؟ انا طول عمرى متسرع أساساً...انا...انا...انا هتصل بيها..."  

يمد يده للوصول إلى الهاتف ثم...

طرااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااخ (قفا صاروخى يجعل وجهه يلتصق بالمكتب)

(يلتفت فى فزع إلى مصدر القفا)
- مين؟ أستاذ براد بيت؟! 
- انا مش براد بيت، انا كرامتك يا معدوم الكرامة، انا شخصية عملها عقلك الباطن عشان تحميك من اللى كنت هتهببه، ولو فكرت تقرب ناحية الموبايل هطلّع تلاتة *** أمك دلوقتى، فاهم ولا لأ؟
- هات الموبايل ملكش فيه.

طرااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااخ (قفا نووى آخر من الناحية المعاكسة يجعله يقع فى حضن براد بيت)

(يلتفت خلفه فى فزع بينما يساعده براد على النهوض)
- أستاذ إد هاريس؟ إنت دخلت هنا إزاى؟!  
- حسيت إنه مش هيقدر عليك لوحده قلت آجى أساعد، مخابرات بقى وكده وهعرف أقنعك أحسن من الصايع ده.
- لأأأأأأأأأأأأأأأأأ...الداااااااااخلية بلطجـ....

طرااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااخ (قفا نووى من الجهة الثالثة يجعله يلتصق بالحائط)
- أستاذ غسّان؟!!!!   
- لا ده انا كنت معدى قلت أشترك مع الإخوة الزملاء بس، إععععععععععععمل الصححححححح.
- يعنى أعمل ايه؟ أعمل ايييييييييه؟؟ ايييييييييييييييييييييييييييه؟؟؟؟؟
...
...
...
إصحـــــــــى يــــــــا زفــــــــــــت !!!!!

(يفتح عينه فى فزع)

- ايه يا ماما فيه ايه؟؟؟
- عمال تصوّت ليه وإنت نايم كده؟ وبعدين مالك نايم وواخد الموبايل فى حضنك زى ما يكون إبنك؟!

(ينظر إلى هاتفه الموجود بجواره)
- لأ ولا حاجة يا ماما، الظاهر كنت هكلم حد وراحت عليا نومة بس، تصبحى على خير.

== تمت ==

14 فبراير 2014

بخير حال (قصة قصيرة)

عاد وعيك مرة أخرى إلى أرض الواقع من العالم الضبابى الذى كنت فيه لفترة لا تعلم مداها بالضبط، لتقضى ثوانى قليلة محاولاً إبتلاع تفاصيل العالم الذى عدت إليه للتو، وتكتشف بعد تلك الثوانى أنك تشعر بملل قاتل تجاة تلك الأغانى المبتذلة التى كانت تنبعث من السماعات القابعة خلف رأسك تماماً طوال الوقت الذى كنت فيه فى عالمك الآخر. تسأل نفسك متأملاً "لماذا أصبحت تلك الأغانى كلها متشابهة هكذا؟"، ثم تقرر أن تنطق أخيراً بعد أن ظن أصدقاؤك أنك غالباً قد توفيت غرقاً أثناء جلوسك معهم فى السيارة المتحركة...

"- ...يابنى إسمع الكلام بس ومتجيبش سامسـ...
- ...جماعة ما تفتحوا أى حاجة فى الراديو شوية بدل أم الأغانى الإسطمبات دى، إنتوا بتستحملوا تسمعوها إزاى؟؟
- يا راااااااجل تصدق كنت نسيت إنك معانا أساساً! بس فكرة برضه، انا زهقت من الفلاشاية دى."

"...وبحبك عشان إنت حبيبى ونور عـ..."

ينقطع شلال الإسفاف فجأة بضغطة زر، فتشعر بنوع من الشماتة فى هذا المدعو "مُطرِب" لأنه لم يستطع إكمال جملته التى لم ولن تضيف للوجود أى شىء يُذكَر، وينبعث صوت الـStatic Noise المحبب للراديو. تنظر من النافذة المجاورة لك إلى الطريق المظلم فى تفكير عميق محاولاً أن تعثر على ترجمة عربية لكلمة Noise تكون أكثر تعبيراً من لفظ "ضجيج" فلا تجد، ثم لماذا هى Static أصلاً رغم أنها تبدو وكأنها متغيّرة بإستمرار بشكل ما؟

هنا تنتبه فجأة إلى غرابة أفكارك فتقوم بدفعها جانباً محاولاً العودة إلى إدعاء كونك شخصاً طبيعياً خرج فى نزهة بصحبة أصدقاؤه، لا مريضاً بالسكيزوفرينيا.

تحاول معرفة ماذا كانت فحوى الحديث الذى إشترك فيه أصدقاؤك –على ما يبدو للنصف ساعة الماضية-، يبدو أنهم يتحدثون عن الهواتف النقالة، تقوم بإلقاء أى جملة عابرة فى الموضوع وتنجح فى الإلتحام بالمناقشة العميقة بنصف ذهن فقط، بينما عاد نصف ذهنك الآخر ليعبث فى ذات المكان البعيد الضبابى الذى لا تستطيع أنت نفسك تمييز معالمه.

فى اللحظة التالية تستفيق كافة حواسك فجأة فى فزع على صوت ينبعث من المذياع لأغنية تبدأ لتوها، أنت تعرف هذه الأغنية جيداً، كان لديك دائماً القدرة على تمييزها بالذات من أول لحظاتها من كثرة إستماعك لها فى تلك الفترة السوداء من حياتك...

تشعر بالقلق الشديد، أنت تعلم جيداً ما كانت تفعله بك تلك الأغنية، لقد منعت نفسك من الإستماع إليها منذ فترة لأنها فى كل مرة كانت تعيد إليك ذكريات حاولت مراراً التخلص منها، وتعيد إليك حالة الصنم المتوحّد الصامت لمدة أسبوع على الأقل بعد سماعها، بدأت تشعر بالتوتّر ولا تعلم ما يجب فعله...

تفكّر...ماذا سأقول لهم الآن؟ إذا طلبت منهم تغييرها سأضطر إلى تحمّل ربع ساعة أخرى من المزاح الثقيل والسخرية، وإذا إستمررت فى سماعها سأقع فى تلك الهوة اللعينة التى أحاول إقناع نفسى بإستمرار أننى نجحت فى الخروج منها.

تقرر الصمت، تتخيل لو كانت تلك الأغنية قذيقة قادمة إليك من السماء، على الأقل حينها كنت ستضع يديك على رأسك وتجرى للإحتماء منها فى مكان ما، لكن أين لك أن تحتمى من مثل هذا الشىء الذى سيخترق أذنك بعد لحظات ويقوم بخنق روحك من داخلك حتى تكاد تشعر أنها ستخرج من قصبتك الهوائية؟ تقرر رغم ذلك أن تفضل الصمت وأن تتحمّل لحظات الرعب التالية على تحمّل سخافات أصدقائك التى لن تنتهى، وليكن ما يكون.

تمر من الأغنية الثوانى الأولى، الدقيقة الأولى، تمر دقيقتان كاملتان وأنت مازلت تنتظر أن تتأثر، أن تقع داخل الهوة السحيقة المعتادة، لكنك لم تتأثر حتى الآن، علامة تعجّب كبيرة تتجسد ببطء الآن فوق رأسك مثل الأفلام الكارتونية، تستمر الأغنية، ثلاث دقائق، أربعة، ثم تسمع صوت المذيعة ترحّب مرة أخرى بالسادة المستمعين وتبدأ فى الهذيان فى أحد المواضيع التى لا تهمك غالباً...

...ذلك المشهد فى الأفلام العربية القديمة حين كانوا يوشكون على تنفيذ حكم الإعدام على أحدهم، ثم يحدث شىء ما ليتوقف حكم الإعدام وينتهى كل الرعب فى لحظة!

أمازلت بخير حقاً؟! تنظر إلى جسدك بصورة كوميدية وكأنك تبحث عن موضع إصابة رصاصة إنطلقت نحوك حالاً لكنك لا تجدها، لم يصبك شىء، لم تشعر بشىء، لم تشعر بأى شىء على الإطلاق، وغالباً لن تعود تشعر بأى شىء أبداً...

تُفكّر فى نفسك فى عدم إكتراث "حسناً، لم أشعر بشىء، على الأقل لن أضطر إلى التحوّل إلى الصنم المتوحّد الصامت بسببها بعد الآن"، ثم تنظر ثانيةً من خلال النافذة المجاورة لك إلى الطريق المظلم، هذه المرة منشغلاً بعدّ الكشافات الموجودة على جنبات الطريق، لتنزلق ببطء مرة أخرى عائداً إلى عالمك الضبابى الآخر.

== تمت ==

اندرو چورچ
الخميس 13 فبراير 2014